علاقات سامّة
مهما بلغت درجة الضيق والكآبة، من المستحيل على أيٍّ منا أن يقضي حياته منعزلاً بالمطلق عن المجموع، لأنّ ذلك يتنافى وطبيعة البشر وحاجتهم الغريزية منذ القدم للتواصل مع الآخرين والتفاعل معهم ومشاركتهم التفاصيل اليومية والمشاعر والأفكار والآمال والأحلام والمخاوف. لهذا يسعى الإنسان في مراحل حياته كافة إلى الاحتماء من وحشة النفس، من خلال الانخراط في شبكة علاقات إنسانية تلبي هذه الحاجة، وتؤثر إيجاباً على طريقة الحياة، وتحقق للفرد التوازن النفسي من تصالح مع المحيط ومع الذات، وتمكّنه من مهارات الذكاء الاجتماعي، حيث القدرة على التعبير وتقبّل الآخر والإقرار بالحاجة إليه. ويؤكّد علم النفس أهمية (وضرورة) هذا النشاط الإنساني الذي يميزنا عن سائر المخلوقات. من هنا، قد يجد الواحد منا نفسه متورّطاً، من حيث لا يدري، في نمط علاقات سامة، تستنزف طاقته بلا طائل، ولا تضيف شيئاً لحياته، لا سيما إذا كان الطرف الآخر مزاجياً أو متسلطاً، يتوهم أنّه مركز الكون، ولا يتقن سوى الأخذ، مفترضاً فينا التسامح والقبول والتغاضي في كلّ المواقف، متنصّلاً من فكرة العطاء، عاجزاً عنها من فرط أنانيته. والواقع أنّه لا يمكن لأي علاقة إنسانية، مهما كانت طبيعتها أو مسمّاها، أن تدوم إذا لم تتوافر فيها شروط عدة، لعلّ أهمها الاحترام المتبادل والندّية.
وإذا ما تعذّر توفر ذلك، فنحن بصدد علاقة سلبية سامة، من شأنها أن تثير فينا الإحباط، وتُراكم الإحساس بالغضب، جرّاء الشعور بخدش الكرامة، ما يجعل المضي في مثل هذا الشكل من العلاقات تواطؤاً ضد الذات بالدرجة الأولى. ويعاني كثيرون، خصوصاً في علاقات الصداقة، من عدم قدرتهم على التخلص من العلاقة السامة التي تسبّب لهم إزعاجاً كبيراً، غير أنّهم يعجزون، حتى عن التعبير للشخص المعني عن ضيقهم أو التذمّر أمامه من سلوكياته المؤذية، فيكتمون الغيظ أو يلجأون إلى الآخرين، يبثّونهم الشكوى، ويقعون في دائرة الغيبة والنميمة، في حين أنهم فقط يرغبون في تفريغ هذه الشحنة من المشاعر السلبية، رغبة منهم في الحفاظ على الصداقة، مهما كانت مشوّهة، خشية من الوحدة والانعزال.
ليس المقترح هنا قطيعة تامة قبل المواجهة وتنبيه الصديق إلى سلوكياته المزعجة التي قد تكون بدون قصد، وقد يرجع عنها عند إدراكه أنها تسبب الأذى. أما إذا استمرّ فيها، فذلك مؤشّر إلى أنه لا يكترث بالمقدار الكافي لحماية العلاقة. وكما نعلم، الصداقة هي العلاقة الأكثر حرية (أو هكذا ينبغي لها أن تكون)، لأننا نقدم عليها باختيارنا من دون جبر أو إكراه. تجذبنا إليها المشتركات والتوافق النفسي، وعندما يخلّ أحد الأطراف بشرط استمرارها لا يتبقى أمامنا سوى قطع شعرة معاوية غير المجدية من جذرها، لأنها لا تؤدّي إلا إلى مزيد من الأذى. ولا يختلف الأمر كثيراً في علاقات الحب، فالرجل والمرأة يفترضان في بعضهما، إضافة إلى توفّر شرط الانجذاب العاطفي، الحبّ والاحترام والتفاهم والاكتراث والإخلاص والحرص والعطاء والتضحية والتنازل. وحين يقدّم كلٌّ منهما ذلك، فإنّنا بصدد علاقة مثالية مقدّر لها أن تدوم، وتؤدّي إلى إنشاء أسرة متماسكة وأطفال أسوياء، غير أن ذلك لا يحدث في أحيانٍ كثيرة، إذ سرعان ما تدبّ الخلافات حال انطفاء جذوة الاتقاد العاطفي المضلل، ليجد الحبيبان نفسيهما بعد الصحوة التي يفرضها الواقع اليومي أمام حائط مسدود، قيل قديماً، في الموروث الشعبي: "من عدّ زلات الولف جافاه" في دعوة إلى التغاضي والتسامح، غير أنّ ذلك الطرح أثبت فشله على المدى البعيد، فالعلاقات الإنسانية، على اختلاف مسمياتها، مرآة الذات. وسوف يكون من المحبط جداً أن نتأمل في هذه المرآة، ولا نرى في انعكاسها سوى الدمار والتشظّي وخيبة الأمل!