عندما تبحث مصر عن حلول مالية لأزمتها الاقتصادية
بينما جذر المشكلة المصرية سياسي اقتصادي واجتماعي مركّبٌ بشكلٍ لا يستطيع أحد أن يزعم فهم كل أبعاده، يبحث إعلامها ونظامها وكثيرون من نخبها عن حلولٍ لأزمتها تلك بعيداً جداً عن جوهرها هذا، فالمصرفيون كهنة المعبد يريدون أن يُمسكوا بكل خيوط اللعبة، بينما هم سبب رئيسي للتدهور الحاصل منذ أكثر من خمسة عقود، وبشكل مكثّف في العقدين الأخيرين، منذ تمكّن الشلة النيوليبرالية المصرفية من تلابيب اقتصاد شبه ريعي غير إنتاجي بالمرة، ومنفتح بشكل مبالغ فيه على عالم تغيب عنه العدالة في كل تفاصيل تعاملاته الاقتصادية.
مصر التي تبحث عن حلول مالية لأزمتها، يراها رجل الأعمال أشرف السعد كما يراها رجالات البنك المركزي وخبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ما تزال مقصّرة في الحلول المالية ويجب أن تذهب بعيدا، ولا يتوقف أحدهم عند كون مصر تستورد مكونات سندوتش الفول الذي هو طعام أساسي لغالبية المصريين، فالفول والزيت والخبز جوهر طعام المصريين قادم في غالبيته من الخارج، ويتأثر بكل ما يجري في أطراف الكوكب وعلى كل الساحات.
طالما روّج هؤلاء المصرفيون والتكنوقراط القادمون بالأساس من المؤسسات المالية الدولية، بأن تحرير سعر الصرف/ التعويم هو الحل السحري لأزمة مصر بشقّيها المالي والاقتصادي، وما زلنا نجرّب هذه السياسات منذ التسعينيات، وننتقل من هاوية إلى أخرى، ومع كل تعويم نضحي بإلقاء ملايين المصريين تحت خطوط الفقر العالمية، بما يعنيه هذا من فقر دخل وتدهور القدرة على النفاذ إلى الخدمات، وبما يمثله ذلك من كلفةٍ إضافية على الموازنة العامة للدولة التي أصبحت تعمل فقط على خدمة الديون وليس المواطنين وتقدّم خدمات عامة رديئة للجميع.
كان الزعم الأساسي لهؤلاء أن هذا التحرير وذلك الانفتاح سيجلب استثماراتٍ أجنبية يروْنها الحل الوحيد لمشكلة البلاد، فلم تأت أبدا بما تشتهي سفن التحرير وانفتاح "السداح مداح"، بل انتهى بنا الحال بدولة تكاد تكون بلا قطاع عام حقيقي كان يوما هو المنتج والمشغل والسند الأول لملايين الأسر المصرية، وقد بيع ضمن صفقات بخسة لم تفرّق بين سلع وصناعات استراتيجية أو كمالية، فالبيع بالجملة ومن دون قيود أو شروط، وهذه الدولة بلا عقد اجتماعي سوى عقد حماية المستثمرين الأجانب والتخلّى عن كل ما يخصّ المواطنين إلا فيما يتعلق بأمن النظام، واستحوذت دويلاتٌ في الإقليم على مقدّرات البلاد السياسية والاقتصادية.
باعت مصر وصندوقها السيادي حصصا في كل الشركات في القطاعات الاستراتيجية تقريبا لمن يريد الاستحواذ على هذه الصناعات
جرت مصر وراء صندوق النقد الدولي خلال العشرية الماضية كما لم تجر من قبل، واتبعت تعليماته حرفياً، كما لو كانت تحت وصاية الدائنين، وقامت بتحرير سعر صرف العملة المحلية تحريرا مُدارا إلى حدٍّ ما، فرأى المصريون سبع سنوات عجاف، ربما لم تمر مثيلاتها على مصر في تاريخها الحديث، حتى في ظل الحروب التي خاضتها في القرن الماضي، فلم تكن في أي وقتٍ مضى أكثر اعتمادا على الخارج في قوتها واستقرارها من العهد الحالي، فقد جرى التعويم عدّة مرات في سبع سنوات تحمّل فيها المصريون ما لم يتحمّله شعب آخر من تضخّم وانهيار قيمة العملة والأجور الحقيقية مقابل زيادات غير معقولة في الأسعار، جرّاء تلك السياسات التي اعتبرت التعويم وسعر الصرف المرن حلاً سحرياً لمشكلاتها الاقتصادية العويصة. حتى أن خبراء ماليين مقرّبين من النظام بدأوا يخرجون عن السياق بنقد هذه السياسات صراحة، مطالبين بتثبيت سعر الصرف عشر سنوات، والتراجع عن اتباع السياسات الموجهة من المؤسسات المالية الدولية، مطالبين باقتصاد مرن، وليس سعر صرف مرن، من دون أن ينبئونا عن ماهية الاقتصاد المرن هذا، هل هو مرن تجاه المجتمع واحتياجاته، أم مرن تجاه الخارج فقط؟
باعت مصر وصندوقها السيادي حصصا في كل الشركات في القطاعات الاستراتيجية تقريبا لمن يريد الاستحواذ على هذه الصناعات، ورأينا كيف أن صناعة الأسمدة والزراعة تواجه تحدّيات عصيبة جرّاء هذه السياسة، فأسعار السماد تضاعفت مرات منذ عمليات الاستحواذ تلك، وبشكل أصبح يفوق قدرة المزارعين الذين يقبع غالبيتهم تحت خطّ الفقر الذي هو ظاهرة ريفية ومدينية في مصر في آن واحد، إذ يتساقط الملايين تحت خط الفقر مع كل تعويم وكل حركة في أسعار الصرف.
أفاد إعلاميون، أخيرا، بأن الصندوق السيادي هذا حصر قرابة أربعة آلاف شركة وأصل يسميها أصولاً غير مستغلة تمهيدا لبيعها. وبالطبع، ليست هناك جهة واحدة في الدولة المصرية راجعت عمليات البيع السابقة وتأثيرها على الاقتصاد، ولا تمت أية عملية تقييم لآثار هذه الاستحواذات بعد تمامها، حتى وإن امتعضت بعض الأجهزة السيادية من استحواذ دولة ما على القطاع الصحي الخاص بمستشفياته ومعامله في ربوع المحروسة.
جرت مصر وراء صندوق النقد الدولي خلال العشرية الماضية كما لم تجر من قبل، واتبعت تعليماته حرفياً، كما لو كانت تحت وصاية الدائنين
نحن، إذن، نعمل جميعا كمصريين في الداخل والخارج كعبيد لدى اقتصاد مدين وقائم بالأساس على إنتاج القيمة وتسريبها لتصل إلى يد هؤلاء الدائنين، وليكون عنوان اقتصادنا خدمة الديون وفوائدها، ولا يهم ما تقدّمه الدولة من خدماتٍ عامة، لا من حيث الجودة ولا الكمية والقدرة على الإتاحة للجميع ممن لا يملكون أجورا حرّة تمكّنهم من الحصول على تلك السلع التي يجري تحريرها جميعا، من دون تفكير في كيفية تحرير مصر والمصريين من نظامٍ كهذا للعبودية التي اختارتها نخب اقتصادية تعاني فقرا في التفكير أو متواطئة على أقل تقدير في جرائم اقتصادية بحقّ المصريين جميعا. وبينما يستفيق بعض هؤلاء المحظيين لدى النظام على كارثة الديون، مطالبين بإعادة هيكلتها تارّة لأهمية مصر ودورها في الاستقرار الإقليمي والدولي، وتارات أخرى تحت شعارات المسؤولية الجماعية عن الرفاه الاقتصادي، تأتي الضربة من وكالات التصنيف الدولي، مثل موديز التي تحذّر من مخاطر إعادة هيكلة الديون والقفزة في سعر الدولار في السوق السوداء.
وبينما لا يجرُؤ أحدهم على المطالبة بمراجعة التوجّهات الاقتصادية للقيادة السياسية التي لا يرون العيب فيها، بل فيمن حولها ويطالب بعضهم بتغيير الحكومة، وكأنه حلّ تقني سحري آخر من حلول تلك الأزمة، فيما يُهرول آخرون إلى البحث عن مصادر تمويل دولي جديدة، مثل اتفاقية للهجرة مع الاتحاد الأوروبي، أو حملة على المهاجرين لاستجداء الخارج لتمويل وجودهم بمصر، في ضوء اضطرابات إقليمية في السودان وفلسطين وسورية وليبيا واليمن لم تنته بعد، وهي مرشّحة لمزيد من السوء.
في مثل هذه الوضعية، لم يعد في يد النظام بحقّ ما يقدّمه لا للمصريين ولا المنطقة ولا العالم سوى الابتزاز بأمن زائف وبعدم التدهور إلى أوضاع تشبه السودان أو سورية أو ليبيا، نظام متحلّلٍ لدولة متحلّلة في إقليم عاجز عن الفعل، والجميع ينتظر فاعلا أو حدثاً خارجياً خارقاً أو القدر لإنقاذه أو دوره في الانهيار، بينما واجب الوقت أن يبحث هؤلاء في أساسيات اقتصاد أكثر عدالة وإنتاجا لحاجياته الأساسية بأجور وضرائب ورسوم عادلة للجميع، وبتمويل متاح للجميع، وليس فقط لكبار المستثمرين وبأفقٍ وتوجّهاتٍ مختلفة، لأن أكثر من ثلاثة عقود من التعويم الذي أفضى للغرق في الفقر والبطالة والتراجع على كل المستويات تكفي، فالشعوب لن تأكل من برج أيقوني أو عاصمة جديدة ومدينة ملاهٍ، ولن تفرح بشبكات طرق لن تستطيع استخدامها من شدّة الفقر، وإن كانت ضرورية.