عندما زاغت تونس عن ثوابتها المغاربية
من الواضح أن تداعيات دعوة الرئيس التونسي، قيس سعيّد زعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، لحضور أعمال القمّة اليابانية - الأفريقية (تيكاد 8) في تونس يوم 26 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) واستقباله بصفة رسمية في مطار العوينة الرئاسي وفق البروتوكولات والتشريفات الخاصة برؤساء الدول والملوك والأمراء والأباطرة، من الواضح أنها لم تتوقف عند البيانات والمواقف ونظيراتها المضادّة الصادرة عن وزارتي الخارجية في المغرب وتونس، وجديدها أخيرا وصف وزير الخارجية المغربي يوم 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، على هامش اجتماع مجلس جامعة الدول العربية في القاهرة، ذلك الاستقبال بـ"الجسيم وغير المقبول" لـ "زعيم المليشيا الانفصالية"، وإنما تحوّلت إلى سجال إعلامي واتصالي، وآخر شعبي، في كلا البلدين، يعكسه الاحتراب الكلامي على صفحات التواصل الاجتماعي، واستخدام شتّى النعوت وبذيء العبارات في وصف الرئيس التونسي وملك المغرب من الجمهور الواسع الذي جرى توريطه في معركة سياسية تتنافى مع روابط القرابة والأصول الجماعية، الأمر الذي قد يهدّد المصالح الحيوية المشتركة للشعبين المغاربيين الشقيقين، خصوصا بعد تخطّي حواجز اللياقة الدبلوماسية وسحب سفيري البلدين.
لا يبدو أن الموقف التونسي من دعوة إبراهيم غالي واستقباله بصفته رئيس "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" حسب التسمية المعتمدة في بيان وزارة الخارجية التونسية المؤرّخ في 27 أغسطس/ آب 2022، الذي تعود فيه المسؤولية للطرف التونسي وحده وفق تصريحات وزير الخارجية الياباني في الرباط يوم 2 من شهر سبتمبر/ أيلول، لا يبدو أنه موقف عقلاني مدروس بالقدر الكافي، ما يجعله يستبطن الحياد التونسي التقليدي، والإرث التاريخي المغاربي الجامع القائم على الاشتراك في الانتماء واللغة والدين ووحدة التاريخ والمصالح والمصير، لما طرأ على صياغة الموقف التونسي من تغييراتٍ في موقع رئاسة الجمهورية التونسية، بعد احتجاج الدولة المغربية وانسحابها من المشاركة في القمة اليابانية - الأفريقية، وما تضمّنه من اعترافٍ غير مباشر بالدولة الصحراوية التي لم تقرّ تونس بوجودها رسميا، ولم تقم معها علاقات دبلوماسية وتتبادل السفارات والتمثيليات القنصلية.
تتمتع وحدة المغرب العربي في الإرث الدستوري والتشريعي التونسي بقدسية دستورية مدوّنة في مختلف الدساتير المتعاقبة التي عرفتها تونس
لا بد من التذكير بأن موقف تونس التاريخي من كل القضايا المغاربية، بما في ذلك القضية الصحراوية، بُني على قاعدة العمل المشترك من أجل تحرير المغرب العربي وتحقيق وحدته وتجنّب الخلافات البينية بين دوله. وهذا الالتزام مضمّن في ميثاق "لجنة تحرير المغرب العربي" المنبثق عن مؤتمر حركات التحرّر في المغرب العربي المنعقد في القاهرة سنة 1947، وحضره عن تونس آنذاك رئيس الحزب الحرّ الدستوري الجديد الحبيب بورقيبة. وقد جاء في نص الميثاق "الاستقلال المأمول للمغرب العربي هو الاستقلال التام لكافة أقطاره الثلاثة تونس والجزائر ومراكش، حصول قُطر من الأقطار الثلاثة على استقلاله التام لا يسقط على اللجنة واجبها في مواصلة الكفاح لتحرير البقية". تم تأكيد التمشّي ذاته في المؤتمر المنعقد في طنجة المغربية سنة 1958 الحامل اسمها بحضور كل من الحزب الحرّ الدستوري التونسي وحزبي الاستقلال المغربي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وقد بحث هذا اللقاء السياسي التاريخي فكرة قيام اتحاد فدرالي بين البلدان المغاربية الثلاثة المشاركة في المؤتمر، ومساعدة حزب جبهة التحرير على تخليص الجزائر من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، توفيرا لشروط قيام الكيان السياسي المغاربي الموحد. ولكن الخطوة الأهم في ذلك العمل، بعد توفير تونس والمغرب القواعد الخلفية واللوجستية للثورة الجزائرية وقياداتها التي حققت أهدافها في التحرير والاستقلال سنة 1962، هي إعلان اتحاد المغرب العربي في قمّة مراكش يوم 17 فبراير/ شباط 1989 بحضور الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والزعيم الليبي معمر القذافي وملك المغرب الحسن الثاني والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد ونظيره الموريتاني معاوية ولد سيدي أحمد الطايع.
الاتحاد المغاربي هو ثمرة جهود أولئك القادة وأسلافهم من زعماء الأحزاب والحركات الوطنية، وتتويجا لجملة من الاتفاقيات الثنائية على غرار اتفاق حاسي مسعود بين الجزائر وليبيا سنة 1975، ومعاهدة الإخاء والوفاق التونسية الجزائرية سنة 1983 واتفاقية وجدة الليبية المغربية سنة 1984. لقد أثبتت الوقائع التاريخية أن الحكام المغاربة في تلك الفترة كانوا أكثر حكمةً واتزاناً في مواقفهم وسياساتهم ووعيهم التاريخي المغاربي من قادة اليوم، ولم يتردّدوا في وضع جملة من الأهداف إذا ما جرى تحقيقها يمكن أن تنتهي إلى بعث كيان سياسي جديد قادر على التحوّل إلى قوّة اقتصادية وعسكرية إقليمية، من ضمنها العمل على "فتح الحدود بين الدول الخمس (المغاربية) لمنح حرية التنقل الكاملة للأفراد والسلع ورؤوس الأموال"، وكذلك "التنسيق الأمني والعسكري والدفاع المشترك عن سيادة البلدان الأعضاء في الاتحاد وصيانة استقلال كلّ دولة من الدول الأعضاء وأي اعتداء على دولة من الدول الأعضاء يعتبر اعتداء على كلّ أعضاء الاتحاد". من أهم الثمار السريعة التي جناها المغاربة عموما، والمغرب والجزائر على وجه الخصوص، من قيام الاتحاد المغاربي بعد سنتين فقط، الاتفاق على وقف إطلاق النار بين الجيش المغربي وجبهة البوليساريو سنة 1991، بعدما دامت الحرب بين الطرفين 16 سنة متواصلة، أُنفقت فيها أموال طائلة وسقطت فيها أنفس عديدة وهُدرت أزمنة وطاقات وجهود، وذلك على أرضية القبول بالاستفتاء مدخلا لتحديد مصير السكان الصحراويين قبل أن يتراجع المغرب ويعود سنة 1997 إلى فكرة الحكم الذاتي تحت الراية الملكية المغربية.
قد يكون موقف سعيّد محكوماً بالرغبة في تقديم خدمات جليلة للجزائر والانتصار لمقاربتها المسألة الصحراوية
تتمتع وحدة المغرب العربي في الإرث الدستوري والتشريعي التونسي بقدسية دستورية مدوّنة في مختلف الدساتير المتعاقبة التي عرفتها تونس، فقد جاء في الفصل الثاني من دستور دولة الاستقلال ومجلسها القومي التأسيسي سنة 1959: "الجمهورية التونسية جزءٌ من المغرب الكبير تعمل لوحدته في نطاق المصلحة المشتركة"، واعتبر دستور الثورة التونسية ذات الخلفية الديمقراطية الذي وضعه المجلس الوطني التأسيسي سنة 2014 أن "الجمهورية التونسية جزءٌ من المغرب العربي، تعمل على تحقيق وحدته وتتخذ كافة التدابير لتجسيمها". واستنسخ الفصل السابع من دستور قيس سعيّد لسنة 2022 الفصل الثاني من دستور 1959 مع استبدال المغرب الكبير بالمغرب العربي. ونظرا إلى ما يتمتع به الدستور التونسي من علوية قانونية وإلزام للقائمين على الحكم بالعمل بمبادئه وفصوله ومنطوق قوله وروح نصه، لا يحق للرئيس قيّس سعيّد أو لرئيسة الحكومة التونسية وكل الفريق الحكومي أن يتخذوا قرارات أو ينتهجوا سياسات تتناقض مع ما جاء في الدستور، فلا بد لهم من العمل على تحقيق وحدة المغرب العربي ومصلحة بلدانه والتصدّي لكل ما يحول دون ذلك. إلا أن هذا المبدأ لم يتمثله جيدا الرئيس سعيّد عندما حشر تونس في النزاع حول الصحراء، فقد زاغ الموقف التونسي عن دستوريته وحياديته وتاريخيته، وأضاع عن الدبلوماسية التونسية، القائمة على مبدأ الحياد الإيجابي وعلى مقولة "صفر مشاكل في العلاقات الخارجية"، لعب دور الوسيط بين الأشقاء المتنازعين والمصلح لما أفسدته الأزمات ولعبة المصالح في العلاقات المغاربية.
قد يكون موقف الرئيس سعيّد محكوما بالرغبة في تقديم خدمات جليلة للجزائر والانتصار لمقاربتها المسألة الصحراوية، إلا أن ذلك الموقف لا يخلو من قصورٍ لما تتمتع به الجزائر من قوّة رمزية متأتية من الثورة الجزائرية التي تعدّ إحدى أهم الثورات في العالم الحديث، ولأن الجزائر قوّة اقتصادية وإقليمية صاعدة، ليست في حاجة إلى دعم تونس المنهكة اقتصاديا وماليا واجتماعيا وسياسيا منذ عقد أو يزيد. وإذا كانت الغاية من استقبال الزعيم الصحراوي هي التلميح إلى الرغبة في إلحاق تونس بالحلف الروسي - الصيني الجديد الصاعد، تيمنّا بالتجربتين الجزائرية والإيرانية، والقطع مع الانخراط في التحالف الأميركي - الأوروبي الذي تنتمي إليه الدولة التونسية منذ استقلالها سنة 1956، وقد ازداد ذلك الانتماء متانةً بعد توقيع المذكرة التي جعلت من تونس حليفا للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو سنة 2015، فإن هذا الخيار يستوجب إعدادا قانونيا جيدا يقوم على مراجعة كل الاتفاقيات التقليدية الموقعة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبناء استقلال اقتصادي ومالي وعسكري متأكّد وحقيقي، لا يقف عند مستوى الشعارات والأقوال الانفعالية، ونسج شبكة من العلاقات الدولية الجديدة الموثوق بها المؤثّرة والفاعلة، أما دون ذلك فهو القفز من العلو الشاهق (والعبارة للرئيس قيس سعيّد) في العالم المجهول المدمّر الذي لا قاع له.