عندما يحاصر الجفاف العالم
تتوالى تحذيرات خبراء المناخ والبيئة من الجفاف الذي يجتاح مناطق عديدة في العالم، بسبب ارتفاع درجات الحرارة. جديد التحذيرات لخبراء في المفوضية الأوروبية أن الجفاف الذي يجتاح معظم دول الاتحاد الأوروبي سيكون الأسوأ منذ القرن السادس عشر. معظم أوروبا معرّضة لموجات الحر والطقس الجاف، حيث يؤثر المناخ على إنتاج الغذاء والطاقة ومياه الشرب والحياة البرّية. كوكب الأرض يكاد يختنق، فالبشر استهلكوا كل ما يمكن أن ينتجه الكوكب في عام واحد، وفقا للمنظمة الأميركية "غلوبال فوتيرنت نتورك"، في "يوم الدين البيئي"، استهلاك احتياط الأرض، أي رأسمال المال الطبيعي والضروري للحفاظ على الحياة. غابات الأمازون، رئة العالم، لم تعد قادرة على مساعدة الكوكب في عملية امتصاص انبعاثات الكربون الآخذة بالازدياد.
كأن العالم يحب الانتحار! وبعد كورونا والحرب الأوكرانية، تأتي التقارير الدولية صادمة عن تجاوز موارد الأرض، واستنزافها في مجتمع ما بعد استهلاكي، يظهر تفاقما في مشكلات الديموغرافيا، وتفاقم كتلة الجوعى والمشرّدين في العالم. وكالة المخابرات المركزية الأميركية سجّلت على جدول أعمالها تهديداتٍ، عادة ما تواجهها الولايات المتحدة، من الأسلحة النووية، وسياسة روسيا العدوانية، وكوريا الشمالية، وإيران المعادية، وأضافت إليها تحدّيات جديدة، على غرار تغير المناخ، وانعدام الأمن الصحي العالمي بشكل كبير، كأعظم اختبار جيوسياسي لواشنطن، فيما وافق مجلس الشيوخ على مشروع قانون، يهدف إلى تخصيص مبلغ 369 مليار دولار لمكافحة تغير المناخ، وهو أكبر استثمار في تاريخ الولايات المتحدة، يقلل انبعاث الكربون في البلاد بنسبة 40% بحلول عام 2030.
خطورة الأزمة تفرض إخضاع النظام الاقتصادي والبيئي العالمي لإصلاح شامل
يتطلب الأمر 1.75 كوكب أرضي لتلبية حاجات السكان بطريقة مستدامة، وفقا لمؤشّر أنشأه باحثون من مطلع تسعينيات القرن العشرين التي شهدت مؤتمرات بيئية أممية عديدة، من ريو عام 1992، إلى كوبنهاغن 1994،2009، مرورا بكيوتو 1997، وبالي وغيرها. في كوبنهاغن، وقد سجّلت خيبة كبيرة للشبكة الدولية للمناخ والبيئة، فبقدر ما كانت التوقعات كبيرة كانت أسباب الفشل أكبر، أبرزها المواجهة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين. ظهر أن تغير المناخ بات يشكّل رهانا بالغ الأهمية في العلاقات الدولية. منظمتا الصندوق العالمي للطبيعة و"غلوبال فوتيرنت نتورك"، غير الحكوميتين، أوضحتا "أن البشرية استهكلت كل ما تستطيع النظم البيئية تجديده". عجز بيئي مستمرّ على الرغم من الإجراءات التي جرى الإعلان عنها في أكثر من قمة بيئية وسكانية، لأنها لم تستغل في الوقت المناسب وبدينامية. النتيجة ضخامة في عدد السكان، وإفراط في استغلال الموارد، والالتفات على مسألة التحول نحو الطاقة البديلة في مؤتمرات المناخ العالمي بالدول الصناعية الكبرى، ومن نوع تحويل في أهداف التنمية البشرية المستدامة (تقدر الموارد المالية العالمية اللازمة لتنفيذ الأحداث المستدامة بحلول العام 2030 بمبلغ يتراوح بين خمسة وسبعة مليارات دولار). وقد جاء التقرير السنوي الذي نشرته حديثا الأمم المتحدة، عن أهم التحولات الديموغرافية الكبرى في العالم، وعن المستقبل الديموغرافي، صادما لجهة التغير السكاني، ومن المتوقع ازدياد عدد سكان العالم إلى تسعة مليارات نسمة عام 2030 (الهند 1.3)، ما يزيد من فواتير الغذاء والطاقة والحاجة الى مياه الشرب. ولطالما اعتبر الرأي العام العالمي أن الاتفاقيات الدولية الهادفة إلى خفض انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم أحرزت تقدّما ملحوظا في المجال البيئي، فقرّر المجتمع الدولي التعبئة بغية إبرام اتفاقية لجماعة البيئة على مستوى العالم. ولكن يبدو أن مستقبل المناخ يزداد قتامة، فالاتفاقيات مختزلة، والعبر لم تُستخلص من الأخطاء المرتكبة على مدى عقود خلت.
بحثت القمّة الأوروبية، أخيرا، تهديدات الحرب الأوكرانية على الأمن الغذائي العالمي، ولعل مساعي دولية كثيرة مع مساعي أوروبا نجحت أخيرا في قيام ممرّات آمنة لنقل الحبوب عبر البحر الأسود، لإنقاذ محاصيل من الحبوب المحتجزة وبملايين الأطنان جرّاء الحصار الروسي لها، فدخلت سلة القمح سلاحا استراتيجيا لا يُستهان به، يستخدم للتهديد بشبح المجاعة الذي يحوم فوق دول فقيرة في القرن الأفريقي والشرق الأوسط، إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية عالميا. أما التغييرات الفيزيائية الطارئة على كوكب الأرض، فهي كثيرة، منها ما يهدّد بضياع آمال التنمية العالمية، ارتفاع درجات الحرارة على نحو غير مسبوق، والعقد الأخير كان الأكثر حرارة منذ عام 1880، وفق دراسات مجلة ناتور جيو سيانس العلمية، وقد أفقد التصحّر دولا ثرواتها الطبيعية، ومواردها المائية، وضرب المساحات الزراعية فيها.
يبدو العالم أقلّ استعداداً لمواجهة الكوارث على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، غير الحروب التي تزيد من المجاعة وارتفاع التضخم الخارجي. الأخطر هو الوعي بأن الكارثة البيئية تتجاوز التوستالجيا (الحنين) لمواجهة المتغيرات التي يفرضها التطور الصناعي. عوامل عديدة طرأت وفقاً لتعبير فيليب انغلهارد أحدثت "انفصاماً ساخراً بصورة متزايدة في النمو، وتحسين الرفاهية الاجتماعية". هل هناك وعي لمعنى النمو الذي لا يعني غالبية السكان، النمو غير المتكافئ، نزعة انتحارية عالمية، استبطانية بالوعي، حتى يفضّل الناس الموت بكورونا على الموت من الجوع والحرائق. غابات الأمازون مهدّدة بالأخطار، ولا قوانين تحميها. وهذا خطر على التنوع البيولوجي والصحي، أخطر من ظاهرة متفاقمة على حساب غابات العالم لجهة التوسّع عمرانياً وقطع الأشجار وعرض الأراضي للبيع.
التغييرات الفيزيائية الطارئة على كوكب الأرض كثيرة، منها ما يهدّد بضياع آمال التنمية العالمية
حاصرت أوروبا في غالبيتها الحرائق أخيرا، ويحاصرها الجفاف، فتتحوّل حيوات المدن إلى كابوس، وإمكانات التدخل منخفضة، ما يستدعي تعزيز البيانات الاجتماعية والسيطرة، والحاجة إلى سياساتٍ من مثل مقترح ترشيد استخدام الطاقة، والاستفادة من مياه الصرف الصحي على نحو أوسع. يُضاف إليها عجز الدول المتنامي عن تغيير مسار الأمور، فتعتمد غالبية الدول على التكنولوجيا تفادياً لانتهاك قوانين التجارة الحرّة والمنافسة الدولية، ولا معاقبة لكل من يخرق، ويفرّط في استغلال قوانين البيئة. فكرة دعم الطاقات المتجددة وبمساعدات هائلة لأصحاب الشركات العامة ساعدت على تكديس الثروات وتطور نشاطات أخرى مربحة، وانتهاك حقوق منع التلوث. (نظرية طرحها رونالد كواز عام 1960).
في ظل هذه الظروف، من المحتمل أن ينال الفشل كل الاتفاقيات في التحوّل نحو الطاقة البديلة (فشل ذريع لمؤتمر كوبنهاغن للمناخ أخيرا). خطورة الأزمة تفرض إخضاع النظام الاقتصادي والبيئي العالمي لإصلاح شامل، والنقل التدريجي للإنتاج والتجارة الدولية، لمقاربة التحدّي المناخي، وبطريقة مختلفة تماماً.
إعادة التفكير في المدينة يعني تغيير الحياة، ما بعد السياسة والحروب، المدينة هي بيئة حياة، وثيقة اليونيسكو في إسطنبول قالت: "اجعلوا المدينة أكثر إنسانية"، والحلول لا تزال في المتناول مع وعي سرعة التحولات، وباعتبار البيئة ثقافة وإعادة تدوير الأفكار في معالجة الأزمات. كان على العالم أن يصغي إلى العالم البريطاني جيمس لافلوك (1919-2022)، صاحب "نظرية غايا"، هو الذي شبه الأرض بكائن حيّ غير قادر على تنظيم نفسه: "الأوان قد فات لإنقاذ الكوكب كما نعرفه"... إذن، هو الاستعداد لخسائر بشرية ومادية هائلة.