عندما يخصّ البرلمان التونسي نوابه بزيادة في الأجور
لا أحد من المهتمين بالشأن العام التونسي كان يتوقّع أن يمرّر مجلس نواب الشعب قراراً بزيادة أجور نوابه، بما قدره ألف دينار شهرياً، ثلاثة أشهر (أكتوبر/ تشرين الأول، نوفمبر/ تشرين الثاني، ديسمبر/ كانون الأول)، قبل أن يستوفي هذا المجلس حولاً من تاريخ انعقاده أوّل مرّة يوم 13 مارس/ آذار 2023، ويشدّ اهتمام التونسيين ويجتبي احترامهم وثقتهم، وهو الفاقد للمشروعية والتمثيلية الشعبية منذ ولادته، فقد قاطعه ما يزيد على 90% من الجسم الانتخابي التونسي، محطّماً بذلك كل الأرقام القياسية العالمية في نسب مقاطعة الانتخابات. جاء في المنشور الصادر عن مكتب البرلمان بعنوان "قرارات مكتب مجلس نواب الشعب عدد 04 للدورة النيابية العادية الثانية 2023/2024 ليوم الخميس 19 أكتوبر 2023"، في نقطته الثانية: "قرّر المكتب وبصفة استثنائية إسناد للسيدات والسادة النواب مبلغ ألف دينار شهرياً لتغطية تكاليف السكن والتنقل خلال أشهر أكتوبر ونوفمبر وديسمبر من سنة 2023".
ويمثّل هذا القرار بروفة أولية، وعملية جسّ نبض لما ستكون عليه ردود الشارع التونسي وانفعالاته، بمختلف شرائحه وطبقاته، في انتظار تعميمه، ليصبح أجر النائب 4400 دينار شهرياً بدلاً من 3400 (ما يساوي ألف يورو)، ويمسح كامل أشهر السنة، خصوصاً أن المطالبة بالترفيع في الأجرة النيابية مثّلت مطلباً من أغلب النواب وأحد هواجسهم الرئيسية منذ حملاتهم الانتخابية، حتى بلغ الأمر بأحدهم حدّ التصريح بأن وراء ترشّحه رغبته في تحسين وضعه المادي. وجرى التداول في الزيادة في كواليس المجلس، وفي أثناء مناقشات لجانه في أكثر من مناسبة. وسيكلّف هذا الإجراء خزينة البرلمان التونسي مبلغاً قدره 462 ألف دينار يتمتّع به 154 من بين 161 نائباً، في انتظار تنظيم انتخابات نيابية جزئية لسدّ شغور المقاعد السبعة الباقية.
قد يتراءى لبعضهم هذا المبلغ زهيداً بالنسبة إلى الدولة التونسية وخزينتها الماليّة، لكنه يحمل معاني دالّة لدى المواطن التونسي الذي كان يعتقد أن نواب الشعب هم ممثلوه وصوته المرتفع عندما تخفُت الأصوات، وتختفي المواقف الشجاعة وتُضمر المبادئ السامية، وضميره الحيّ الذي ينبض بالإرادة والرغبة في الدفاع عن الآخرين، ومنبع القيم السياسية الفضلى التي تُترجم في شكل قوانين وتشريعاتٍ وسياساتٍ رقابية، الغاية الرئيسية منها دعم هذا المواطن وإنصافه وإعلاء شأنه وتمكينه من حقوقه والدفاع عنه وحمايته من جوْر الدولة ومظالم الحكومات والحاكمين.
النواب من موظفي الدولة شأنهم شأن كلّ موظف عمومي، وهم يتقاضون أجراً وليس منحة، كما كان الحال سابقاً
تعالت التبريرات والتفسيرات من داخل مجلس نواب الشعب ومن خارجه، لإعطاء شرعية للقرار الموصوم في المنابر الإعلامية بالغنائمية والرغبة في الاستفادة قدر الامكان من المال العام، فكان له وقع الصاعقة على عموم الناخبين ومختلف التونسيين، ترجمتها نقاشاتٌ عجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات الشعبية الافتراضية، فضلاً عن أنّ المبرّرات التي جرى التسويق لها، بما في ذلك التبرير الوارد في نص قرار المجلس، كانت غير مقنعة ومجانبة للحقيقة، ولا تتمتّع بالمصداقية وقوّة الحجّة. فالقول إن تلك الزيادة المجزية (ما يزيد على ضعفي الأجر الأدنى الأساسي المضمون) في أجور النواب هي بعنوان منحة نقل وسكن، متهافت، ذلك أن هذا الأمر حسمه مجلس نواب الشعب في أثناء الدورة النيابية 2014-2019، ملغياً سنة 2015 السكن المجاني في فندقي أفريكا والمشتل قي العاصمة تونس، وعوّضه بمنحة تقدّر بـ 900 دينار. وفي السياق، اتّخذ قرار إلغاء مجانية الأكل بمطعم المجلس، واستبدالها بمنحة مالية تقدّر بـ300 دينار، علماً أن السكن في الفندقين المذكورين والأكل، المجانيين، إجراء أُقرَّ في زمني الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي (1956-2011)، ولم يتخذه المجلس الوطني التأسيسي (2011-2014) أو مجلس نواب الشعب (2014-2021). ولقد مكّن هذا الإجراء الخزينة العامة من توفير مبالغ مالية ناهزت ثلاثة ملايين دينار سنويا طوال الفترة 2015-2021. ومقابل سحب تلك الامتيازات، قرّر البرلمان التونسي سنة 2015 تمكين النواب من مبلغ قدره 1200 دينار، لتصبح المنحة التي يتقاضاها النائب 3400 دينار، بعد أن كان مقدارها 2200 دينار شهرياً. ذهب فريق ثانٍ من النواب إلى أن الزيادة في الأجر مأتاها اقتناء أدوات عمل من حاسوب وهاتف أندرويد أو أيفون، كما كان الحال في المجالس السابقة، وهذا مجانب للصواب. فالهواتف التي تسلّمها نواب البرلمان التونسي في دورة 2014-2019 وفي أثناء الدورة التي لم تكتمل 2019-2021، تمّ اقتناؤها من حرّ مالهم مع تسهيلاتٍ في الدفع من المزوّدين. أما الحواسيب المقدّمة في الفترة نفسها، فهي ممنوحة من برنامج الأمم المتحدة للتنمية (مكتب تونس)، ولا علاقة لها بميزانية الدولة والبرلمان التونسيين. وقد أعلن نواب أنهم يؤيدون هذا الإجراء الغنيمي بكلّ تحدٍّ وصلف، رغم ردود الأفعال الشعبية الرافضة. واحتمى آخرون بعدم معرفتهم بالقرار، وقد علموا به من طريق وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الجاهل لا عذر له وفق القاعدة القانونية المألوفة، خصوصاً لمّا يتعلّق الأمر بواضعي القوانين أنفسهم ومن يسنّون التشريعات المنظمة للمجتمع والدولة. فكلّ نواب المجلس من المنتمين إلى الكُتل النيابية أو من غير المنتمين، لهم من يمثّلهم في مكتب المجلس، وبالتالي، وقع التداول في القرار، المُتّخذ بإجماع كلّ أعضاء ذلك المكتب، مسبقاً أو تناهى إلى أسماعهم بشكلٍ أو بآخر.
يضع قرار البرلمان رفع أجور أعضائه النوّاب في موقع شبهة خيانة مؤتمن، فانتخابهم كان بهدف خدمة الناخبين ودافعي الضرائب عموماً، وليس بغاية تحقيق منافع لأنفسهم
يثبت القيام بعمل استقصائي سريع في المنحدرات المهنية لنواب المجلس التشريعي التونسي أن مكونات المجلس الغالبة هي من الموظّفين المتوسطين النشيطين والمتقاعدين، بينما حالَ القانون الانتخابي دون ترشّح أصحاب المهن الحرّة والوظائف السامية، فكانت أجور المشرّعين في مهنهم الأصلية تراوح بين 1700 و2000 دينار، وقد مكّن التحاقهم بالبرلمان من مضاعفتها لتصل إلى 3400 دينار، وهذا ما يجعل أي زيادةٍ يخصّ بها المجلس أعضاءه تصنّف ضمن اللهث وراء الاستفادة من مال الدولة "السائب"، محرّكهم في ذلك النهم والرغبة الجامحة في مزيد الإثراء من المال العام. وبهذا الإجراء، يعيد نواب الجمهورية الجديدة، التي تلتحف الطهورية والشفافية والنظافة، إنتاج ما علق بالمؤسسة التشريعية في أثناء ما يسمّيه بعضهم "العشرية السوداء" من تهم حقيقية أو وهمية، وكان عليهم أن يطالبوا بمثل ما خصّوا به أنفسهم، ليشمل مختلف شرائح الوظيفة العمومية والقطاع العام الذين عددهم 658 ألف موظّف، وأيضاً المشتغلين بالقطاع الخاص، ويصل عددهم إلى مليوني عامل وصاحب مؤسسة صغرى أو كبرى. وسيكون هذا الإجراء الأقرب إلى الواقعية، إذ لا يحقّ للبرلمان اتخاذ قرار الزيادة في أجور النواب دون سواهم، ولا يحق له اتخاذ أي إجراء له صبغة مالية يعود عليهم بالنفع دون غيرهم، فدستور الرئيس قيس سعيّد لسنة 2022 في بابه الثالث، وعنوانه "الوظيفة التشريعية"، حسم الأمر نهائياً، حينما أقرّ أن التشريع وظيفة وليس سلطة، وبالتالي، النواب من موظفي الدولة شأنهم شأن كلّ موظف عمومي، وهم يتقاضون أجراً وليس منحة، كما الحال سابقاً، فالمنحة تُمنح لمن يمارس سلطة، والأجر يُمنح لمن يمارس وظيفة.
اتّخذ البرلمان التونسي قراره، مستغلاً انشغال التونسيين وتظاهرهم في الشوارع ليلاً ونهاراً منذ 7 أكتوبر، احتفاءً بملحمة طوفان الأقصى البطولية، والنصر الذي تحقق في تاريخ القضية الفلسطينية، واحتجاجاً لا يعرف الانقطاع تنديداً بالعدوان الصهيوني على قطاع غزّة، وما يعيشه شعب فلسطين من قتل وإبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية ومحاولة نسف وجوده، على يد الجيش الصهيوني المهزوم هزيمة استراتيجية في معركة الطوفان التاريخية. استغلال القضية الفلسطينية العادلة، المُجمع عليها من كل التونسيين، لتمرير قرار سياسي بغاية الاستفادة المادية الفئوية، على حساب بقية الشرائح المجتمعية، ممّن هم في موقع القدوة والقيادة لا يلقى الرفض والاستهجان الشعبيين فحسب، بل يعدّ من خوارم أخلاقيات السياسة، ويضع نوّاب المؤسّسة التشريعية في موقع شبهة خيانة مؤتمن، ذلك أن انتخابهم كان بهدف خدمة الناخبين ودافعي الضرائب عموماً، وليس بغاية تحقيق منافع لأنفسهم.