عندما يدير البنك المركزي المصري السياسة الاقتصادية
يلحظ المتتبع دور البنك المركزي المصري في العقد الماضي بسهولة أنه يتجاوز دوره المالي كثيراً، فهو يطرح مبادراتٍ برّاقة لتعزيز الصناعة أو الزراعة وغيرها في إطارٍ شكليٍّ لم يقد إلى تحسّن في الزراعة ولا في الصناعة، وإنما لتعامل مع المسألة الزراعية والصناعية بوصفها مسألة فنية مالية بحتة، ومن منظور لماذا لا يستدين هؤلاء المزارعون والصناع الصغار الذين يشكلون عصب الحياة الاقتصادية المصرية، سواء بالمعنى التشغيلي أو الإنتاجي؟ ويتناسى هؤلاء أدوارهم الفنية الأساسية في ضبط السياسة النقدية التي تشكّل بنية تحتية لانطلاقة القطاعات الاقتصادية، وبينما يظلّ همّهم الأكبر هو قدرة البنوك على توفير السيولة للحكومة للوفاء بديونها الخارجية والداخلية، نجد أن القطاع الوحيد الذي يحقّق مكاسب قياسية في الاقتصاد المصري هو البنوك والبنوك فقط.
لا يقتصر الأمر على البنك المركزي المصري، والذي كان رئيسه أكثر ثباتا من قيمة العملة المصرية، فنشأت أجيال كاملة على الأموال المطبوعة، وعليها توقيع محافظ البنك المركزي، فنشأ جيل الثمانينات والتسعينات ومطلع الألفية لا يعرف إلا فاروق العقدة، حتى أن بعضهم اعتقد أن تجاوزه عقدة حقيقية للنظام المصرفي. ومنذ رحيله، عين الرئيس عبد الفتاح السيسي، في فترة وجيزة، ثلاثة رؤساء للبنك المركزي، جلهم جاء بوعود لاستكمال المسيرة التنموية الناجحة من وجهة نظرهم، وكيف لا تكون وجهة أنظارهم هكذا، وهم معينون من الرئيس بعد موافقة شكلية من برلمان غير منتخب انتخابا حقيقيا، وغير معبّر عن جموع المصريين ولا عن كفاءة وجدارة حقيقية؟
تتحكّم البنوك والمصرفيون ووزارة المالية في الاقتصاد المصري بشكل لافت للانتباه، ولا يمكن تجاوزه هكذا باعتباره عرضاً، بل قد يكون أساس المرض، إذ كيف يحقّق المواطنون والحكومة وكثير من القطاعات الإنتاجية خسائر أو على الأقل تعاني من ركود وانكماش، بينما لا يربح ولا ينمو إلا القطاع المصرفي، فهل يعمل المصريون واقتصادهم وحكومتهم عند المصارف أم العكس؟ ... ففي وقتٍ حقق فيه غالبية المصريين، وبالتحديد، منذ العام 2016، خسائر كبيرة في دخولهم الحقيقية، وألقي ملايين جدد تحت خطوط الفقر، ولا يزال عدة ملايين من المصريين تحت خط الجوع أو الفقر المُدقع، نتيجة السياسات المالية والنقدية التي تتبعها هذه البنوك ضمن برامج وسياسات ومشروطيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدائنين الإقليميين، وبيعت فيه أصول مصرية من مصانع وغيرها للدائنين الإقليميين تحت بند الاستثمارات أو الاستحواذات، تتضاعف أرباح القطاع المصرفي عاما بعد عام، فهل هذه مصادفة بحتة؟
لا يزال عدة ملايين من المصريين تحت خط الجوع أو الفقر المُدقع، نتيجة السياسات المالية والنقدية
قد يقول بعضهم وما الضرر في أن يحقق هذا القطاع كل هذه الأرباح، فهؤلاء فنيون ناجحون جدّا، وسنتجاوز عن مسألة النجاح تلك مؤقتا، فهم ناجحون بمعيار أنه قطاع ربحي لا خيري لكنه عندما يصبح القطاع الوحيد الذي يحقق أرباحا هائلة خلال عقد، مروّجا أن سياساته الناجحة كانت سببا في جذب الاستثمارات، بينما لم تأت تلك الاستثمارات ولم تتدفّق إلا لشراء أصول الدولة المصرية وتسييلها، وتساؤل آخر يتبادر إلى الذهن، وهو إذا كان البنك المركزي يستهدف التضخّم حقا، وهو هدف معلن للحكومة والبنك المركزي ووزارة المالية، فلماذا لم ينجح في مجابهة هذا التضخّم خلال عقد من تلك السياسات؟
هل رفع الفائدة سياسة ناجحة أصلا في مواجهة التضخّم، وهل هذا المسار من الاستدانة ونهم الديون ومراكمة وتسييل الأصول في صناديق سيادية الذي يروّجون حتميته هو السياسة الوحيدة التي تنجح في مواجهة التضخّم؟ أم هو مجرّد استجابة لتطلعات قيادة سياسية منبهرة بالنموذج الإماراتي في العمران وإدارة المال عبر الصناديق السيادية بلا قيد من رقيب أو حسيب؟
تُخبرنا التجارب المعاصرة أن رفع الفائدة في الأرجنتين وتركيا إلى أرقام قياسية لم يقُد إلى الحدّ من التضخّم، بل على العكس، واصلت معدّلاته في الارتفاع حتى وصلت إلى 67% في الحالة التركية في شهر فبراير/ شباط الماضي، رغم أن سعر الفائدة وصل إلى 45%، وهي السياسة التي يديرها وزير مالية ورئيسة بنك مركزي قادمان من قلب المؤسّسات المالية الدولية، ومن أنصار الحلول الفنّية للأزمات الاقتصادية، ولم ينجحا على مدار ثمانية أشهر في إحداث اختراقٍ في سياسة مواجهة التضخّم.
يحدّثنا المصرفيون دوما عن فوائد تحرير أسعار الصرف، بينما لا يحدّثنا أحد عن كيفية تحرير المواطنين من العبودية لدى من يحكمون السوق
ويجادل مصرفيو مصر بأن سياسة رفع الفائدة هي لحماية المودعين والمدّخرين من آثار التضخم، لكن حتى بعد هذه السلسلة من رفع الفائدة، فسعر الفائدة الحقيقي قد يكون سلبيا، لأن التضخّم يظل أعلى من الفائدة. وبالتالي، أية حماية للمدّخرات والمدّخرين قد حصلت؟ ويعيدنا هذا إلى سؤال آخر حول من هم المدّخرون؟ وإذا كان معدل الادّخار العام في مصر أساسا لم يتجاوز خلال العقد الماضي 10% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسّط، فأي مدّخرين تحمي تلك السياسة وقرابة نصف المصريين خارج النظام المصرفي بعد عقد من ترويج الشمول المالي؟
بل إذا عدنا إلى مسألة النجاح ومعاييره فهل يحدّثنا البنك المركزي ورجالات القطاع المصرفي عن الأموال الساخنة، وعن خروج الأموال في المجمل من الاقتصاد المصري، أم سيظلّون يحدثوننا فقط عن صافي الاستثمار الأجنبي المباشر، بينما يتغاضون عن الخروج الكبير للأموال وتسرّبات القيمة التي حدثت خلال العقد المنصرم، وهي أكبر بكثير مما حدث في العامين التاليين للثورة، والتي تلقي هذه النخب المالية والسياسية باللائمة عليها في أي تعثّر حقيقي؟
يقولون لنا دوما إن رفع الفائدة سياسة ناجحة في محاربة التضخّم من دون أن يعطوا شاهدا
لماذا لا يحدّثنا، إذن، هؤلاء التقنيون الناجحون جدا عن بند السهو والخطأ في حسابات البنك، والذي يكاد يلامس 15 مليار دولار سنويا؟ وهو الرقم الذي عادة ما تربط التقارير الدولية بينه وبين هروب الأموال إلى الخارج والفساد وتضع البنوك المركزية عادة سياسات تحكّم Capital control على كبار المودعين، وليس صغارهم لمنع حدوث الخروج الكبير لرؤوس الأموال من السوق وقت الأزمات، وهي السياسات التى ربما تلقى المصرفيون المصريون توصياتٍ من نظرائهم في لبنان باتباعها قبل مواجهة المصير نفسه الذي ينتظرنا بالسير في المسار المالي نفسه الذي يتحكّم بتلابيب البلاد والعباد، ويهدّد بانهيار كبير يجري تأجيله مؤقتا من دون أية ضمانات حقيقية لتلافيه بالوجوه نفسها والسياسات نفسها.
يقولون لنا دوما إن رفع الفائدة سياسة ناجحة في محاربة التضخّم من دون أن يعطوا شاهدا. يحدّثنا المصرفيون دوما عن فوائد تحرير أسعار الصرف، بينما لا يحدّثنا أحد عن كيفية تحرير المواطنين من العبودية لدى من يحكمون السوق، ولا حتى كيف يمكن حماية المواطنين من تداعيات انهيار العملات، بسبب هذا التعويم أو التحرير لأسعار الصرف، فنرى الشباب يتحدّث عن أنه أصبح يعمل أكثر من عمل، ولا يحافظ على مستوى الدخل الحقيقي نفسه، وأنه كلما يدّخر للحصول على سلعة أو خدمة يبدأ بتصفير العداد والعد من جديد مع كل تعويم، حيث تتضاعف قيمة المنتج المطلوب، بينما تسير الرواتب بسرعة السلحفاة، فهل يدير هؤلاء الاقتصاد بالتضخّم المرتفع بدلا من محاربته على طريقة الإدارة بالأزمة؟ وهل هدف محاربته حقيقيٌّ لدى مثل هؤلاء؟