عندما يكتسح اليمين المتطرّف أوروبا
بعد فوز حزب التجمّع الوطني الفرنسي بعدد بلغ 89 مقعداً في انتخابات الجمعية الوطنية قبل فترة وجيزة، لأول مرة في تاريخ فرنسا، وبعد أن جرى فرنسياً تطبيعٌ في الخطاب السياسي وفي التعامل الاجتماعي بين التطرّف اليميني واليمين المعتدل باتجاه التطرّف، وبعد أن استعملت الأحزاب الأخرى، ذات اليمين وذات اليسار، المفردات المتطرّفة بحثاً عن تجميع أصوات ناخبين سيطر عليهم الخطاب الشعبوي المُستجدّ والبعيد عن كل القيم التي قامت عليها الثورة الفرنسية سابقاً (1789) والجمهورية الخامسة حالياً (1958). بعد هذا كله، يبدو أن العدوى تنتشر في أوروبا بسرعة نسبية وتقبّل مجتمعي مفاجئ.
مؤكّد أن أوروبا ليست منفردة في هذا التوجه، فمنذ سنوات قليلة، سجّل صعود اليميني المتطرّف، جايير بولسونارو، إلى سدّة حكم البرازيل سنة 2019 مفاجأة كبيرة. وقد بدا أن المقترعين الذين اختاروه إما نسوا فظائع الديكتاتورية اليمينية العسكرية التي حكمتهم سابقاً (1964 ـ 1985)، أو أنهم يحنّون إليها أو أن غالبهم من الجيل الجديد الذي لم يعش موبقاتها. ولقد شهدت تشيلي، أخيراً، في ذكرى انقلاب العسكر على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي في 11 سبتمبر/ أيلول 1973، إجماعاً شعبياً بلغ أكثر من 62% من الناخبين على رفض تعديل الدستور الذي أقرته الديكتاتورية الزائلة (1973 ـ 1990)، وبالتالي فشلت الحكومة الاشتراكية القائمة في إحلال دستور تحرّري وتقدّمي يحترم حقوق كل المواطنين ويحفظ حرّياتهم ويساوي بينهم، فالعملية الديمقراطية التي اعتمدت استفتاءً عاماً على قبول الدستور الجديد نجم عنها رفض كبير النسبة من المقترعين الذين غلبت انتماءاتهم الدينية/ الكاثوليكية والعرقية/ الأوروبية والمناطقية/ الريفية، على اهتماماتهم بمصلحة بلدهم ككل ومستقبلها.
بالعودة إلى الداء الذي يجتاح أوروبا، من الضروري الانتباه إلى أن مجرّد الانتماء إلى الأب الروحي للتجمّع الوطني الفرنسي، الذي كان يسمّى الجبهة الوطنية الفرنسية، كان مبعثاً على الحرج، وكان أصحابه يتحاشون الإفصاح عنه، وكأنه عاهة ونقيصة. وإن كان هو كذلك في التحليل العقلاني، إلا أنه صار اليوم شيئاً طبيعياً، وصولاً إلى أن يكون مدعاة فخر لصاحبه، من دون أي حرج أو وجل. ولهذا التحوّل أسبابه البنيوية المرتبطة بتطوّر النظام الرأسمالي، وبحركات الهجرة واللجوء، وفشل السياسات العامة وسيادة الخطاب الشعبوي في كل الحقول وانهيار الفكر الاجتماعي التقدّمي تحت وطأة فشل اليسار الذي حكم إما بسياسات اليمين في الدول الديمقراطية أو أنه تحوّل إلى أداة قمع وقهر في الدول الاشتراكية قبل سقوط جدار العار في برلين سنة 1989. وهناك عامل ابتعاد العامة عن الشأن العام وانشغالهم بحيواتهم الضيقة التأثير والتأثر، ما يبعدهم، بالتالي، عن صناديق الاقتراع التي تصبح ضحية للمنتظمين والمنظمين، حيث يغلب التطرّف على انتماءاتهم. وبالتالي، تسجّل نسب التصويت أضعف الأرقام، ويكتفي 20% أو 30% من الناخبين في أحسن الأحوال بتقرير مصير البقية.
ناخبون يطغى على صفاتهم السياسية حصر الاهتمام بالخاص دون العام. وبالتالي، سيؤثر بهم الخطاب الشعبوي المتطرّف يميناً أو يساراً
الحزب اليميني المتطرّف السويدي المسمّى حزب الديمقراطيين، والقادم من الحركة النازية الجديدة دون حرج، صار بيضة القبّان في نتائج الانتخابات التشريعية في السويد التي جرت يوم 11 سبتمبر/ أيلول الحالي. ولم يجد اليمينيون الوسطيون نظرياً أي حرج بالتحالف معه لقيادة حكومة يمينية تُبعد الحزب الاجتماعي الاشتراكي عن ترؤس الحكومة. وفي الخامس والعشرين من الشهر، ستجري انتخابات تشريعية مسبقة في إيطاليا. وتشير استطلاعات الرأي إلى إمكانية عالية الاحتمال لاكتساح الحزب الفاشي الجديد المتحالف مع اليمين الأقل تطرّفاً واليمين المعتدل مجلس النواب.
استوعب اليمين المتطرّف الأوروبي عموماً في السنوات القليلة الماضية أنه يجب أن يُعدّل في خطابه لتوسيع رقعة الاعتراف به في المشهد السياسي. وبعد أن كان تركيز الأحزاب المتطرّفة اليمينية يتمحور حول مسألتي الأمن والهجرة، صار من الطبيعي اليوم أن تتناول أدبياتهم مسائل متنوّعة تتعلق بالقوة الشرائية والبيئة. وبعد أن كانت أغلب المجموعات اليمينية المتطرّفة تجتمع على خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي، تبيّن لقادتها أن هذا التوجه ليس شعبياً بما يكفي، فتخلّوا عنه، على الأقل في الخطاب العام.
يتقدّم اليمين المتطرّف الاسباني بتؤدة، حيث يسعى حزب اليمين المعتدل للتقرب منه والتحالف معه، سعياً للتخلص من تحالف اليسار الحاكم. وحتى البرتغال، البلد الأوروبي الوحيد الذي كانت نخبه تتغنّى بانعدام التصويت لليمين المتطرّف، حصل هذا الأخير على عدد من مقاعد المجلس النيابي في الانتخابات أخيراً.
تسجّل نسب التصويت أضعف الأرقام، ويكتفي 20% أو 30% من الناخبين في أحسن الأحوال بتقرير مصير البقية
ناخبون يطغى على صفاتهم السياسية حصر الاهتمام بالخاص دون العام. وبالتالي، سيؤثر بهم الخطاب الشعبوي المتطرّف يميناً أو يساراً. إضافة إلى الطلاق القائم بين شرائح واسعة من المجتمعات والعملية السياسية بمختلف صورها، وأبرزها الاقتراع. وقد بدأت، أخيراً، وفي ظل هذه التحولات غير المطمئنة للعقلاء من النخب السياسية والفكرية، عملية إعادة تفكير واسعة ومعمّقة بمسألة الديمقراطية. وصار من الطبيعي الحديث عن جعل العملية الانتخابية واجباً يلتزمه المواطن، ما سيعكس حتماً حقيقة التركيبة السياسية والمجتمعية أكثر مما هي عليه الحال.
ثلاثة قواسم مشتركة أساسية تجمع عليها أحزاب اليمين المتطرّف الأوروبية دولياً: الإعجاب إلى حد التحالف مع سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما الإعجاب والصداقة مع زعماء عرب تسلطيين، والتي لا تتنافى مع عنصريتهم تجاه المكوّن العربي المهاجر في بلدانهم. وأخيراً، التقارب مع دولة الاستيطان والعنصرية الإسرائيلية، رغم أصول هذه الأحزاب المرتبطة بعقائد نازية ومعادية للسامية، والتي يبدو أنها لا تُزعج دولة الاحتلال في شيء.
الديمقراطية في خطر.