عن أخطر مصائد نصَبَتْهَا حماس للغرب
في لقاء خصَّ به إذاعة مونتي كارلو الدولية عقب عملية طوفان الأقصى، التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ضد إسرائيل يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وضع وزير الخارجية الفرنسي السابق، دومينيك دوفيلبان، الإصبع على أخطر الفخاخ التي سقط فيها الغرب جرّاء هذا الهجوم غير المسبوق. وقال الدبلوماسي اليميني الأديب إن "حماس نصبت لنا ثلاث مصائد": مصيدة عنف عسكري، وأخرى عزلت الغرب، وثالثة أخلاقية". وبينما يشير تحليل دوفيلبان إلى خطورة سقوط الغرب في هذه المصائد، الواحدة تلو الأخرى، فإنه لا يذهب بعيدا في تقييم آثارها على مستقبل النظام الغربي في فترةٍ حرجة من تاريخ البشرية.
ويقول دوفيلبان بدايةً إن الغرب، ويعني به الاحتلال الإسرائيل ورعاته (الأورو - أميركيين) سقطوا في الفخّ العسكري الذي نصبته لهم حركة حماس، إذ استدرجتهم بعنف هجومها إلى الحد الأقصى من العنف والرّعب، في حين أنه لا يمكن للجيش أن يحلّ مسألة بخطورة المسألة الفلسطينية. ما لم يجرُؤ الدبلوماسي السابق على الإقرار به هنا أن هجوم "حماس" الكاسح أذلّ إسرائيل وداعميها، وأفقدهم جميعا قدرتهم على السيطرة على وحشية الغرب الجامحة، حتى بات قادة إسرائيل عاجزين عن إخفاء نيّتهم في إبادة الشعب الفلسطيني في غزّة بأكمله، وباتوا عاجزين عن وقف تنفيذ جرائم الإبادة عبر الحصار الشامل والقصف المكثف والقتل والتجويع والتعطيش الجماعي وتهجير قسري لأزيد من مليون مدني داخل القطاع على مرآى العالم.
أذلّت عملية طوفان الأقصى دولة الاحتلال الجبّارة، وفجّرت في مجتمعها بركان الإجرام فكشفت عن وجهها الحقيقي للعالم الذي بات يرى فيها دولة إبادة، قاتلة الأطفال، قاصفة المدنيين، الدولة النووية الظالمة التي استنفدت رصيد مظلومية اليهود الذي تقتات عليه منذ الحرب العالمية الثانية. وعبر دعمها الدبلوماسي والعسكري والإعلامي المطلق لحملة الإبادة الإسرائيلية، يبدو ذلك الغصن من تلك الشجرة، وإسرائيل ما هي إلا سليلة الاحتلال الاستيطاني الأوروبي الذي مارس جرائم الإبادة على السكان الأصليين من أستراليا إلى أميركا، قبل التوجّه إلى قِبلته الأخيرة والكبرى في فلسطين.
يشكّل دعم الغرب حملة الإبادة التي يخوضها الاحتلال في غزّة وباقي الأراضي الفلسطينية انتهاكا شاملا لكل ما يقوم عليه النظام الغربي من قوانين وحقوق وحرّيات وعدالة دولية
وفي معرض حديثه عن المصيدة الثانية، قال دوفيلبان إن هجوم 7 أكتوبر حشر الغرب في كتلةٍ أصبحت في مواجهة مع المجتمع الدولي، بعد أن كان للغرب نفوذٌ في العالم أزيد من خمسة قرون. هنا أيضا، لم يذهب الدبلوماسي الفرنسي إلى حد الإقرار بأن وقوف الحكومات الغربية وآلتها الإعلامية وراء جرائم إسرائيل اليوم والبارحة هو ما عزل الغرب عن باقي الدول، فإن كانت حرب أوكرانيا قد وحّدته في مواجهة روسيا، وأحدثت شرخا واضحا بينه وبين دولٍ عديدة، الآسيوية خصوصا، فإن انزلاقه السريع إلى خندق إسرائيل منحها الضوء الأخضر لحملة إبادة جماعية وهو ما وسّع هذه الهوّة، ودفع إلى عزله أكثر من ذي قبل.
من عواقب الدعم الغربي المطلق لحرب إسرائيل الخامسة على غزّة ورفضها المطالبات الدولية بوقف إطلاق النار أنه قد يزيد من تقليص نفوذه السياسي والاقتصادي في أنحاء كثيرة من العالم لصالح الصين، فبينما يزيد انفتاح دول الخليج والشرق الأوسط شرقا على الصين وروسيا وغيرها من القوى الآسيوية، تعثّر المشروع الأميركي لربط البنية التحتية في الهند بالشرق الأوسط وأوروبا عبر السعودية وإسرائيل، في ضوء تجميد السعودية مشروع التطبيع مع إسرائيل، ليصبح بذلك حلم الرئيس الأميركي جو بايدن بقطع الطريق على مبادرة الحزام والطريق الصينية بعيد المنال.
المصيدة الثالثة التي نصبها هجوم 7 أكتوبر للغرب أخلاقية، حسب دوفيلبان الذي يرى أن مشكلة ازدواجية المعايير برزت بحدّة بالغة، وجعلت الغرب محطّ أسئلة ملحّة من قَبِيل "أنتم تدينون ما حدث في أوكرانيا، ولكنكم خجولون للغاية في مواجهة مأساة غزّة". الواقع أن هذا الفخ يتجاوز ازدواجية المعايير، ويخصّ بالأساس انهيار النظام الدولي (يعني الغربي) القائم، نظريا على الأقل، على القانون والحرّيات الأساسية وحقوق الإنسان؛ نظام ما زالت تتحجج وتتبجح به واشنطن ومن يدور في فلكها، بينما يسلّحون دولة احتلال نووية للاعتداء على شعبٍ يرزح تحت أبشع احتلال في تاريخ البشرية منذ حوالي 75 عاما.
يشير تحليل دوفيلبان إلى خطورة سقوط الغرب في مصائد حماس، ولا يذهب بعيداً في تقييم آثارها على مستقبل النظام الغربي
يشكّل دعم الغرب حملة الإبادة التي يخوضها الاحتلال الإسرائيلي في غزّة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة انتهاكا شاملا لكل ما يقوم عليه النظام الغربي من قوانين وحقوق وحرّيات وعدالة دولية، بما يُفقد الغرب مصداقيته ويدقّ ناقوس نهاية نظامٍ حقوقي، تحاول واشنطن منذ حربها على العراق استبداله بقواعد تستمدّها من قانون الغاب، وتطلق عليها اسم "النظام الدولي القائم على القواعد"، وقد تناولت صاحبة هذا المقال خصائصه ومراوغاته في مقال في "العربي الجديد" بعنوان "عن قانون أميركا الدولي".
أظهرت الحرب الإسرائيلية - الغربية على غزّة أن التكتلات التي تشكلت في إطار نظام دولي يقوم على سيادة القانون عقب الحرب العالمية الثانية، وفي مقدّمتها الأمم المتحدة، قد تآكلت وبلغت ذروة عجزها بعد أن تحوّل مجلس الأمن إلى منصة خطابية عاجزة عن استصدار قرار بوقف إطلاق النار، لإدخال مساعدات إنسانية، ناهيك عن منع أول إبادة جماعية مُتلفزة في تاريخ البشرية.
صحيحٌ أن هجوم 7 أكتوبر على إسرائيل قد جرّ ويلاتٍ على سكان غزّة، لكنه قد يتيح أيضا فرصا ما لم تتوقف مقاومة حماس عن اشتباكها مع قوات الإبادة، وما لم يُهجّر سكان غزّة قسرا إلى صحراء سيناء. ذلك أنه أجبر الدول الراعية للاحتلال على الحديث عن إنهاء الاحتلال وحلّ الدولتين، وإنْ من باب محاولة امتصاص الغضب الدولي، وتعويلها على عودة إسرائيل إلى خططها الإبادية فور انجلاء دخان المدافع والقنابل الفسفورية الحارقة عن سماء غزّة. يتوقّف تحويل الحديث عن حلّ الدولتين إلى مكسب سياسي بالأساس على الشعب الفلسطيني، ومدى قدرته على توحيد قواته وتجديد قيادته وبلورة مشروع وطني يمكن التفاوض حوله مع الغرب المنهار دوليا، باسم الشعب الفلسطيني المُقاوم.