عن إعادة العلاقات التونسية السورية وسياقاتها العربية والدولية
بعد طول تماهٍ مع قرارات دولية سالفة، والالتزام بمسارات مماثلة، انتهجتها جامعة الدول العربية منذ موفى سنة 2011، حسم الرئيس التونسي، قيس سعيّد، أمره، واستجمع قواه، وأبان لمريديه ومواليه عزما ترجَمه قراره إعادة العلاقات التونسية السورية. شاءت لعبة المصالح أن يكون هذا القرار متزامنا مع تبدّلات في مواقف قوى عالمية مهيمنة وأخرى إقليمية مؤثّرة، فسارع على أثرها، يوم 27 إبريل/ نيسان 2023، إلى استدعاء الدبلوماسي محمد المهذبي إلى قصر الرئاسة بقرطاج لأداء القسم واستلام أوراق الاعتماد سفيرا فوق العادة مفوّضا للجمهورية التونسية لدى سورية.
وعلى خلاف وعد قطعه الرئيس السابق الباجي قائد السبسي على نفسه، في أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية سنة 2014، بإعادة العلاقات الرسمية بين تونس وسورية وتبادل السفراء، ولكنه اكتفى طوال مدّة رئاسته (2014 - 2019) بتعيين قنصل عام بدمشق سنة 2015، وإرسال بعثة قنصلية محدودة التمثيل سنة 2017، فإن الرئيس سعيّد لم يقدّم في أثناء حملته الانتخابية سنة 2019 وعودا مماثلة، وخلت خطاباته وبياناته وتصريحاته من الخوض في العلاقات التونسية السورية التي جرى قطعها سنة 2012، تاريخ مغادرة السفير السوري تونس، بأمر من الرئيس التونسي آنذاك منصف المرزوقي، وسحب سفير تونس بدمشق، على خلفية تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية.
غابت عن خطاب الرئيس سعيّد يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 في مجلس النواب (40 دقيقة)، على هامش أداء اليمين الدستورية، أي إشارة إلى موضوع العلاقات التونسية السورية، فلم تكن إعادة تلك العلاقات مدرجة في سلّم أولوياته البتة. وتأكّد هذا سنتين أو يزيد والرئيس التونسي يترأس القمّة العربية التي ارتحلت إلى تونس سنة 2019 ومُنحت رئاستها للرئيس الراحل السبسي، وقد استلمها الرئيس الجزائري مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2022. اكتفى سعيّد في جلسة افتتاح القمة العربية بالجزائر في دورتها عدد 31 بإشارة يتيمة عابرة في خطاب دام 35 دقيقة، سلّم على أثره العهدة للرئيس عبد المجيد تبون. جاء فيها "حان الوقت لتوحيد المواقف حتى تستعيد سورية عافيتها ويستعيد اليمن سعادته وليبيا مكانتها"، أما في كلمته، 11 دقيقة، في القمّة العربية الصينية في الرياض يومي 9 و10 ديسمبر/ كانون الأول 2022، فإن الرئيس سعيّد تناول كل قضايا الكون، لكنّه تجنّب إثارة موضوع إعادة العلاقات العربية السورية، وما قد يحدثه من مطبّات دبلوماسية وأزمات سياسية.
لو أن قرار إعادة العلاقات مع سورية كان تونسياً سيادياً صرفاً وليس إقليمياً بموافقة دولية، لكان سعيّد اتّخذه مباشرة بعد توليه السلطة سنة 2019 أو بعد سنة أو سنتين
أبدى سعيّد براغماتية غير معهودة، وقدرة على التقاط اللحظة السياسية وتوظيفها لتثبيت سلطانه، حين أعلن عن قراره إعادة العلاقات التونسية السورية، ورفع من مستوى التمثيلية، فعيّن سفيرا لتونس بدمشق وفتح السفارة السورية بتونس لاستقبال السفير السوري، مباشرة بعد أن أُعلن يوم 10 مارس/ آذار 2023 من بيجين عن نجاح الوساطة الصينية بين السعودية وإيران، تبعا لمفاوضات مضنية أفضت إلى إعادة العلاقات بين البلدين والاتفاق على فتح سفارتيهما بالرياض وطهران وتوقيع اتفاق في الغرض، وإحياء معاهدة 1998 الاقتصادية واتفاقية 2001 الأمنية. وتُظهر الوقائع والأحداث السياسية المتواترة منذ توقيع الاتفاق أن التفاهمات أفضت إلى ما يمكن تسميته "سورية مقابل اليمن"، أي أن الرياض تعيد علاقاتها مع سورية وتعمل على إعادة إدماجها في جامعة الدول العربية، وإلغاء قرار تعليق العضوية المتخذ من الجامعة سنة 2011 وممارسة ما يستوجبه الأمر من تأثير وضغوط. وكانت من نتائج الاتفاق زيارتا وزيري خارجية البلدين جدّة ودمشق. وفي المقابل، تتولّى إيران المساعدة على إيقاف الحرب اليمنية التي استنزفت الخزينة السعودية بمئات مليارات الدولارات، وأدت إلى إزهاق مئات آلاف الأرواح وملايين المهجّرين والمشرّدين داخليا وخارجيا، وبدء مفاوضات مع الحكومة الحوثية في صنعاء، وهو ما تم الشروع في تحقيقه بعد زيارة أداها السفير السعودي محمد آل جابر إلى صنعاء برفقة الوفد العُماني الذي رعى المفاوضات المباشرة مع الطرف الحوثي في مسقط.
نشرت صحيفة العربي الجديد في 19 إبريل المنقضي أن الولايات المتحدة هي التي أعطت الضوء الأخضر للدول العربية لتطبيع علاقاتها مع السلطات السورية. وأن المبعوث الأميركي السابق إلى سورية، جويل ريبرون، قال إنّ مسؤولين كباراً في الإدارة الأميركية أعطوا دولاً عربية "ضمناً" الضوء الأخضر للتطبيع مع نظام الأسد، وأن هذه الإدارة فضّلت التطبيع مع النظام على أن ترعى روسيا "صفقة" بين دمشق وأنقرة. وكانت واشنطن علّقت العقوبات على سورية بموجب قانون قيصر الأميركي إبان الزلزال المدمّر الذي شهده شمال سورية، وفُهم من هذا الإجراء تغيّر في الموقف الأميركي تجاه النظام السوري.
تسفّه السياسات والقرارات والمبادرات الدولية والإقليمية الرامية إلى إعادة العلاقات العربية السورية وعودة سورية إلى جامعة الدول العربية، ما يروّجه الأنصار والمريدون أن قرار الرئيس سعيّد تعيين سفير تونسي بدمشق سيادي لا دخل فيه للأطراف الخارجية العربية والدولية. فقد أظهرت الأحداث أن القرار التونسي، وما ترتّب عنه من استقبال تونس وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، جاء بعد رحلة الأخير إلى جدّة، بوابة ومنطلق جولته إلى عدّة دول عربية، ومنها مصر والجزائر وتونس. ولو أن القرار كان تونسيا سياديا صرفا وليس إقليميا بموافقة دولية، لكان الرئيس سعيّد قد اتّخذه مباشرة بعد توليه السلطة سنة 2019 أو بعد سنة أو سنتين، ولكنه انتظر أربع سنوات حتى اشتعل أمامه الضوء الأخضر وفُتح له هامش "سيادي" لاستغلاله، هو الهامش نفسه الذي أتيح لغيره من الحكّام العرب.
أبدى سعيّد براغماتية غير معهودة، وقدرة على التقاط اللحظة السياسية وتوظيفها لتثبيت سلطانه
ولاستغلال الهامش المتاح، اختار سعيّد أن يكون السفير التونسي المعيّن بدمشق موظّفا قديما في وزارة الخارجية التونسية، محمد المهذبي (58 سنة)، حصل على شهادة الأستاذية في الفلسفة سنة 1989 ودبلوم الدراسات المعمّقة في العلوم السياسية، واشتغل بالترجمة لإتقانه اللغة الألمانية. وهو دبلوماسي مخضرم، استطاع في أوج حكم زين العابدين بن علي (1987-2011)، أن ينفذ سنة 1994 إلى وزارة الخارجية التونسية موظّفا بقنصلية تونس في بون، ثمّ قنصلا في ميونخ (2006-2011)، منافحا عن الثقافة السياسية السائدة آنذاك، وذلك قبل أن يختفي اسمه من سجلّات الوزارة سنوات طويلة، ليظهر من جديد بالجريدة الرسمية التونسية في 3 يناير/ كانون الثاني 2020 وزيرا مفوّضا يتولّى مهمّة مدير العلاقات مع روسيا وبلدان وسط أوروبا والقوقاز بالإدارة العامة لأوروبا والاتحاد الأوروبي والمتوسّط، ويصبح سنة 2021 وزيرا مفوّضا خارج الرتبة، وهي أعلى درجة بسلّم التراتب الدبلوماسي بوزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج. وقد يكون من عوامل اختياره توليه الإشراف على إدارة تختصّ بالعلاقات مع روسيا، ما قد يساعده على النجاح في بلدٍ يُلاحظ فيه النفوذ الروسي بالعين المجرّدة.
وباستثناء مطابقة البروفايل للوظيفة، لم تظهر بعد ملامح عقيدة دبلوماسية تستبطن توجّهات سعيّد حتى يتلقّفها السفير الجديد وغيره من السفراء ويجعلوها نبراس عملهم ومعيار تعاملهم مع القضايا التي تعترضهم في أثناء مباشرة وظائفهم ومنهج فهمهم تلك القضايا شديدة التعقيد، وفي طليعتها صعوبات تسويق سلطةٍ اختار رئيسها التراجع عن المكسب الديمقراطي، والعودة إلى الدولة التسلطية التي تجلّت في أبشع مظاهرها من خلال الاعتقالات والمحاكمات السياسية وتكميم الأفواه ومنع الحرّيات بموجب المرسوم عدد 54 وبعث المؤسسات الصورية التي لا تلقى إجماع فرقاء السياسة. قد لا تكون هذه المسائل الجوهرية من أولويات السفير التونسي بدمشق، لكنّ نظراءه في السلك الدبلوماسي من مختلف الدول سيثيرونها، فلا يوجد في سجلّ السياسيين والدبلوماسيين الأحرار ما هو أشرف من الانتماء إلى دولة ديمقراطية يتمّ التداول فيها على السلطة سلميا، ولا يوجد ما هو أنكى وأفظع من الوصم الناتج عن الاستفراد بالسلطة والاستبداد. وصم قد يلاحق أصحابه طوال حياتهم، أينما حلّوا ووطئت أقدامهم، فينغّص عليهم عيشهم ويسبّب لهم الضُرّ والأذى.