عن الاستشارة الوطنية وشرعية سعيّد الانتخابية
بات مؤكّدا اليوم أن نهاية شرعية الرئيس التونسي، قيّس سعيّد، الانتخابية، لم تكن يوم 20 مارس/ آذار 2022 تاريخ الإعلان عن نتائج استشارته الوطنية، وإنما كانت يوم 22 سبتمبر/ أيلول 2021 لمّا أعلن عن المرسوم الرئاسي عدد 117، وتعليق الاشتغال بالدستور التونسي لسنة 2014، الذي وضعته جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا مباشرا، كان من بين من اقترحها قيس سعيّد نفسه (مقال قيس سعيّد "من أجل دستور جديد لتونس"، صحيفة الصباح، 6 فبراير/ شباط2011)، ليحلّ محله ذلك المرسوم في شكل نظام مؤقّت للسلطات العمومية. ومرجع فقدان الشرعية الانتخابية المعبّرة عن الإرادة الشعبية هو الحنْث العظيم عن القسم الغليظ الذي أدّاه سعيّد أمام مجلس نواب الشعب، بحضور ممثلي الطيف السياسي كافة، يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وفق ما ورد في الفصل عدد 76 من الدستور التونسي، بالقول الجهر المعلن أمام وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية وكل أفراد الشعب التونسي متابعين وشهودا "أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال تونس وسلامة ترابها وأن أحترم دستورها وتشريعاتها وأن أرعى مصالحها وأن ألتزم بالولاء لها".
وهذا الحنْث العظيم الذي أصرّ عليه سعيّد، وكأنه المثال لما جاء في القرآن العظيم ("وكانوا يُصرّون على الحنث العظيم"، سورة الواقعة الآية 46) لا يتعلّق فقط بالقسم على احترام الدستور والتشريعات المعمول بها التي تُنتهك يوما بعد آخر لفائدة نصوصٍ شخصية، لم يشاور فيها الرئيس أحدا، ولا إجماع حولها ولا تداول في محتوياتها ولا استفتاء للناس في شأنها، وإنما يُضاف إليه عدم القدرة على الحفاظ على استقلال البلاد من التدخلات الأجنبية والإملاءات الخارجية ومراعاة مصالحها بحماية سكانها من المخاطر التي تتهدّدها من جرّاء الأزمة الاقتصادية والمالية والحروب والصراعات الدولية (غلاء الأسعار والفقر والمرض والجهل والجريمة)، والتدخل الأجنبي بيّن في ما يمارسه قناصل الدول الكبرى وبعثاتهم الدبلوماسية في تونس، من خوضٍ معلن في مختلف قضايا البلاد وقراراتها السيادية والتأثير فيها.
جاءت نتائج الاستشارة هزيلةً، على الرغم من توظيف كل إمكانات الدولة التونسية اللوجستية والإدارية والبشرية من أجل إنجاحها
ولم تكن نتائج الاستشارة الوطنية التي جعل منها الرئيس قيس سعيّد، من حيث هو يدري أو لا يدري، استفتاءً شعبيا على ولايته في الحكم ومشروعيته الشعبية التي يدّعيها، سوى تجسيد عملي لنهاية شرعيته الانتخابية التي تلاشت قيميا وأخلاقيا ودينيا يوم 22 سبتمبر/ أيلول 2021 عندما قرّر أن يدوس على الدستور بنعليه، فقد استبدل تلك الشرعية الانتخابية الكثيفة التي مُنحت له في انتخابات 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 من نحو مليونين وثمانمائة ألف ناخب تونسي بنسبة 72.71% من الأصوات بمشروعية شعبية متهرئة، لا وزن شعبيا لها، ولم تحظ بتأييد النخب الفكرية والسياسية والمدنية والإعلامية وقادة الرأي العام، المختلفة التوجهات والآراء. تجلّى فقدان الشرعية الانتخابية في ما انتهت إليه الاستشارة الوطنية التي دامت شهرين ونصف الشهر، ولكن المشاركة فيها تخطّت 500 ألف مشارك بقليل، وهو رقمٌ يقل بمائة ألف عن حصيلة المصوّتين للرئيس سعيّد في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 ولا يمثّل إلا 6% من أصوات عموم الناخبين و7% ممن هم في سن السادسة عشرة فما فوق المعنيين بالاستشارة الوطنية.
جاءت نتائج الاستشارة هزيلةً، على الرغم من توظيف كل إمكانات الدولة التونسية اللوجستية والإدارية والبشرية من أجل إنجاحها، وخصّها رئيس الجمهورية باجتماعات عديدة مع الوزراء ذوي الصلة، وخصوصا وزراء تكنولوجيات الاتصال والتشغيل والتكوين المهني والشؤون الاجتماعية والشباب والرياضة، وتداول في شأنها عديد مجالس الوزراء بإشراف الرئيس نفسه، وخصّص لها التلفزيون الوطني والإذاعة الوطنية ومضات إشهارية دورية على مدار اليوم، ونزل الولاة والمعتمدون إلى الشوارع يأمرون الناس بالمشاركة فيها، وانتصبت لأجلها الخيمات في المدن والقرى والأرياف، للتعريف بها والمساعدة على الولوج إلى موقعها على الشبكة الافتراضية، وفُتحت لها جميع دور الشباب في كامل تراب تونس، وسُخّرت أجهزتها الاتصالية والإعلامية، وأرسلت مؤسسة اتصالات تونس الحكومية ملايين الإرساليات القصيرة تحرّض المواطنين على المشاركة، وجُنّد لأجلها جيشٌ إلكتروني يمارس الدعاية بواسطة صفحات "السوشيال ميديا"، وأقرّ الرئيس مجانية الإنترنت لكل من يرغب في المشاركة فيها، ففي نجاح تلك الاستشارة نجاح الرئيس وتأمين مستقبله السياسي، وبفشلها سيتهاوى مشروعه السياسي، وسيكتشف أن الشعب الذي يريد لم يعد يريد الرئيس، ولم يعد يثق فيه وفي رؤيته للحكم وإدارة شؤون الدولة والمجتمع.
لا توجد أمام سعيّد حلول كثيرة بعد أن انهارت شرعيته الانتخابية، وبان فقدانه مشروعية شعبية حقيقية
وفي حين صوّتت للرئيس سعيّد يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 شرائح شعبية كثيرة، مختلفة الانتماءات السياسية والفكرية والفئات العمرية والانحدارات المهنية والجغرافية، وكانت العملية الانتخابية نبيلةً غير مشكوك في مصداقيتها بإجماع من راقبها وتابعها تعكس إجماعا مجتمعيا حوله، بعد أن أشرفت عليها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، كان في خدمة الاستشارة الوطنية بقايا الشُعب الدستورية (التجمّع الديمقراطي الدستوري المنحلّ بأمر قضائي) والعُمد الترابية والحملات التفسيرية الموالية لشخص الرئيس الحاكم بأمره الذي تختزل ذاته وكيانه "الأمّة" والوطن، والمعتقدة في عبقريته التي ترتقي به إلى مستوى دون الآلهة بقليل، كما هو الأمر في الثقافات القديمة الإغريقية والمصرية والسومرية، وفي الأنظمة الرئاسوية، معيدة إنتاج ممارساتٍ سياسية انتهى زمانها وولّى عهدها وتخلّص منها المجتمع السياسي التونسي بسقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي يوم 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني 2011) وقبرها إلى غير رجعة.
لا توجد أمام الرئيس سعيّد حلول كثيرة بعد أن انهارت شرعيته الانتخابية، وبان فقدانه مشروعية شعبية حقيقية، سوى الرجوع إلى الشعب في انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها تشرف عليها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات دون غيرها، وينظمها قانون انتخابي يتفق عليه فرقاء السياسة وكبار فاعليها يكون موضوع حوار وطني وإجماع سياسي – مدني، فلم يعد البرلمان وحده من يفتقد الشرعية الشعبية، ما أدّى إلى تجميده وتعليق أعماله، حسب مقتضيات المرسوم عدد 117 الرئاسي، فقد أثبتت الاستشارة الوطنية التي قرّر الرئيس سعيّد إجراءها وأشرف عليها بنفسه، أنه بات فاقدا الشرعية أيضا، وعليه أن يعرض نفسه على الشعب من جديد. أما الاكتفاء بتنظيم انتخابات تشريعية وفق قانون انتخابي يضعه الرئيس بمفرده في شكل مرسوم، ولا تشارك في صياغته القوى والأحزاب الوطنية، سيؤدّي حتما إلى تعاظم الأزمة السياسية التونسية بسبب مقاطعة تلك القوى الانتخابات، وسيفاقم من الأزمة القيمية الأخلاقية التي علقت برئيس الجمهورية منذ حلف اليمين الغليظة باحترام الدستور وحنثه ذلك، وهو الذي سوّق نفسه لدى الرأي العام ورسم صورة في المخيال الجماعي بأنه الرجل الورع الذي يؤدّي صلاته كتابا موقوتا في كلّ مكان حلّ به، رصدته كاميرا التصوير أم لم ترصده، ونسي أن تلك الصلاة تنهى عن اليمين الغموس، فهذا النوع من القسم يحتلّ مكانا محترما في سلّم المنكرات.