عن الجيش وتقاطعات السياسة في السودان
الصورة في السودان التي تلتقطها الأقمار الصناعية وتكشف حجم الدمار هي كل شيء، نسخة مكرّرة من مظاهر العالم العربي التعيسة. ليست استثنائيةً، حين تُضاف إلى مآسي عالمٍ لا يعيش حياته الطبيعية. إنها تعكس حالة من التخلّي السياسي. والحرب شاهدٌ يظهر معاناة البشر، صنو لواقع عبثي تتقاسمه شهرة ثنائية عسكرية، تأسر أنظارنا من بعيد على أجهزة التلفاز. هندسة لأشكالٍ من الأزمات ومساوئها والخراب، وأثرها الذي يلحق بالكساد السياسي والاقتصادي، وتأثير القوى المجهولة التي تدفع الصور من الخلف.
الحقيقي في الإعلام هو في ما وراء الصورة، وما وراء الخبر. مفارقات أزمة سودانية معقّدة، فيها لاعبون عديديون، إلى النزاع الداخلي بين الجيش النظامي ومليشيات قوات الدعم السريع، وما يثير الخشية والمخاوف من زعزعة استقرار دول الجوار الكثيرة، ومن حرب داخلية تدمّر أحياء الخرطوم، وتؤدّي إلى أزمة لاجئين أخرى في المنطقة.
السيناريو الأسوأ هو انزلاق الأوضاع إلى ما حدث سابقا، حيث الصورة تقدّم نفسها في تقاطعاتٍ وتشابهاتٍ مع ما حدث في لبنان من حرب تحرير وإلغاء في 1989، ومع سورية وليبيا. هو فن الحرب الذي أضحى عاديا بين الجنرالات، والأكثر قساوة بينهم محمد حمدان دقلو (حميدتي)، كأنه رجل سينمائي متمرّس في الحرب، ومجهّز جيداً في سعيه إلى الاستيلاء على السلطة، ولكن لا يمكنه الانتصار، باستحالة فرض عصبيةٍ بعينها، وبين الفريق عبد الفتاح البرهان الذي يتحدّر من نخبة العسكرة السودانية التقليدية، يحلم بأن يكون رئيساً في آخر قائمة الجنرلات الرؤساء.
في الظاهر، هي لعبة سيطرة على منصب الرئاسة، في إطار السيطرة على الحكم، في النمط البيروقراطي لمسلك الضباط، في بلدٍ مثل السودان، مؤسساً على علم اجتماع الجيش، وفي السياق نفسه، لحماية "مهنتهم" على مدى عقود. السودان اليوم هو حاصل الفراغ السياسي حيث كان المفروض الإعلان عن رئيس وزراء في 11 إبريل/ نيسان، وتفجر مكوناتٍ بسبب الخلاف بشأن دمج قوات الدعم السريع بالجيش، وعناصر متداخلة سياسية، واجتماعية، وولاءات، وعصبيات، وإثنيات عرقية.
ليست حالة السودان منفردة، فشعوب المنطقة، بظروفها ومعطياتها، بضعفها وسلبياتها، تعاني من أوضاع مشابهة، إذ تجد نفسها خارج الأوطان في مجتمعاتٍ عسيرة على الاندماج
لم ينجح الجيش في فرض الوحدة الوطنية على المجتمع، لم يخضع الشعب السوداني لحكم العسكر، ما يريده هو عودة الجيش إلى ثكناته. لم تنجح جهود المصالحة والتسوية بين الجيش والسياسة في الانتقال إلى حكم مدني، لصالح حكومةٍ يقودها المدنيون وفق الجدول الزمني المتفق عليه في الاتفاق الإطاري الذي جرى الإعلان عنه في 5 ديسمبر/ كانون الأول الماضي. والنتيجة صراع مرير على السلطة، فيما سكّان الخرطوم يعانون ويلات الاقتتال، ونقص المياه، وانقطاع الكهرباء، ولا يستطيعون النزول إلى الشوارع، حيث انتشار الرجال المسلحين في مختلف أنحاء المدينة.
صورة الوضع الخطير جدا، وكما كان متوقعا أن من المستحيل إصلاح ذات البين بين مؤسّسات متباعدة، تفتقر إلى أسس مبنيّة جيدا، والمرجّح، حسب المراقبين، دخول البلد في رواية الحرب السيّارة، من دون اعتبارات للشعب السوداني، ويمكن أن تمتدّ إلى المنطقة، إذ تدخل البلاد في متاهة، بعد أن تزايدت في مواقع التواصل الاجتماعي الدعوات إلى دعم هذا الجنرال أو ذاك. تُغرق الخصومات العسكرية الخرطوم والأطراف السودانية بسوء استخدام القوة. هذه الحرب أبعد من الحرب الأهلية، وفق تحذيرات الهيئة الحكومية للتنمية الأفريقية (إيغاد).
لا تأتي الانقلابات العسكرية بخير، واللجوء إليها تعبير عن فشل سياسي داخلي وخارجي في إدارة مرحلة ما بعد نظام البشير، والعجزعن تحقيق توافقاتٍ قادرة على انتشال السودان من مشكلاته المزمنة، والتي لم تكن بحاجةٍ إلى مزيد من الخلافات والتعقيدات الخارجية، لتزداد الأمور سوءا. فالمسؤولية مشتركة بين جميع القوى التي لم تنجح في تجاوز جذورها العصبية، والتي تتحكّم في مسلك السلطة والمعارضة، من أجل الخروج من النزاعات الأهلية المترسّبة والمنبعثة مع مصاعب أخرى، اقتصادية واجتماعية. مع ذلك، لا تخجل الثنائية العسكرتارية من تفجير طاقاتها العنفية، هربا من مواجهة معطياتٍ واقعية، ما حذّر منه كثيرا رئيس الحكومة (الانتقالية) المستقيل عبد الله حمدوك، مطالبا المجتمع الدولي بتحقيق الحدّ الأدنى من النمو الديمقراطي، والتعدّديات الأهلية في بلاده وتنفيذ مبادرة السلام.
واقعيا، ليست حالة السودان منفردة، فشعوب المنطقة، بظروفها ومعطياتها، بضعفها وسلبياتها، تعاني من أوضاع مشابهة، إذ تجد نفسها خارج الأوطان في مجتمعاتٍ عسيرة على الاندماج، وأمام حسابات إقليمية ودولية متباينة. كل عصبية منكفئة على نفسها، على دفاعاتها الفرعية، وسط عجز عن بناء كيانٍ وطنيٍّ موحد، وتفتقر إلى الولاء الجمعي والعام. تمثل هذه الهياكل السياسية بنية تحتية ممتازة لإنتاج العنف، وتزويد النزاعات بالطاقة الضرورية للاشتعال. مجتمعات بلا إجماع سياسي، وتفتقر إلى الشرعية الشعبية، تفيد شروط الانقلاب على بناء اجتماع وطني سليم، والثمن كمٌّ هائل من التناقضات، ونتائج فادحة وأكلاف صراعٍ تطاول المجتمعات الأخرى.
النموذج السوداني اليوم حالة انفصال دائمة عن النظام المركزي منذ أوائل الستينيات، ومساحة لإقامة علاقات مع دول لها مشروعها في التفكيك والهيمنة
النموذج السوداني اليوم حالة انفصال دائمة عن النظام المركزي منذ أوائل الستينيات، ومساحة لإقامة علاقات مع دول لها مشروعها في التفكيك والهيمنة، من ضمنها إسرائيل الحليفة القوية لحرب العصابات على الأراضي الإثيوبية، مع أن إثيوبيا ليست من بلدان المواجهة، لكن من مصالحها الجيوسياسية استنزاف مصر. ولهذا، سيكون الدعم المصري المباشر منخفضا، لأن واشنطن المتورّطة في السودان لا ترغب في تدخّل مصري فعّال. ولا يبشّر دخول الجهات الخارجية على خط حالات الفوضى بالخير، مع أن هذه الأطراف تتشارك حول ضرورة إنهاء الأعمال العدائية، والعودة إلى المحادثات التي لم تُنتج حلولا سياسية.
قدر جيوبوليتيكي جعل السودان مطوّقاً بتسع دول، ما ينطوي على مشكلات أخرى، تتصّل بضرورات انتهاج خط سياسي لا يتقاطع مع توجهات ومصالح لهذه الدول أحيانا. السودان في مواجهة أشباح الحرب الأهلية والاقتتال منذ العام 1955، واستمرت عقودا متتالية (1972 – 1983) إلى العقد الحالي، وتحكمُه دوامة الانقلاب على الديمقراطية، واتساع رقعة الحرب الأهلية إلى الجنوب ومناطق أخرى، والفشل في الإبقاء على المركزية وامتداداتها، والخلاف على اقتسام السلطة (بروتكول ماشاكوس)، وانقسام الثروة النفطية والمعادن الأولية. ودائما هناك ثنائيات متناهية ومظاهر من انعدام الثقة، وهي من مفارقات تكوين الدولة السودانية ذات المساحة الواسعة، ما ينفجر تمرّدا على الاحتواء، ومشكلات، وتهديدات تُنذر بالتشرذم والعزل في دولة مجهولة الأطراف الأخرى، ما يسمح باستمرار الأوضاع، وصراع أصحاب البزّات العسكرية، والدوغماتيات المتقاتلة، فتحول دون تحقيق السلام والتنمية.