عن السعادة وتداعياتها
قال الكاتب الروسي العظيم مكسيم غوركي، في محاولة للكشف عن كنهها، إن السعادة تبدو دائما صغيرة عندما تمسكها بيديك، لكنك إذا تركتها أدركت فورا كم كانت كبيرة وغالية. وقال أيضا إن المرء كلما ذاق المزيد من المرارة زاد جوعه لمباهج الحياة. ولا ينطلق غوركي في حديثه من ترف فكري أو تأمل فلسفي مجاني، فقد عاش أياما مضنية في حياته، إذ أصبح يتيم الأبوين في التاسعة من عمره، فرعته جدّته، وأثّرت في تكوينه النفسي والأدبي، لكن الموت عاجلها، هي الأخرى، تعرّض على إثرها لصدمة كبيرة ووقع في حزنٍ شديدٍ، دفعه إلى محاولة الانتحار تأثرا على رحيلها. عانى طويلا وهام على وجهه متشرّدا في أنحاء روسيا، في بحثه عن لقمة العيش، في ظل الواقع المرير الذي عانى منه الشعب الروسي في حكم القيصر. ومن هنا جاء تأمله في معنى السعادة موجعا وعميقا وحقيقيا، كونه نابعا من عمق الألم.
السؤال هنا: من يجرؤ على ترك حالة السعادة مختارا؟ ألا يحدث ذلك رغما عن أنوفنا؟ نتشبث بها، ونحاول استبقاءها، غير أنها سرعان ما تغادرنا، لأن عدم الدوام هو جوهر طبيعتها، والوصول إليها، على الرغم من نسبيتها، لا يتم بسهولة. ويختلف تعريف السعادة من شخص إلى آخر بحسب ظرفه المعيشي وتركيبته النفسية. هنالك من ظفر بكل أسبابها. ومع ذلك، ظلت روحه حزينةً، تجهل طريق الفرح أسيرة الكآبة والإحباط. وهناك من ولد محروما من كل شيء، لكنه امتلك القدرة على الإحساس بالسعادة من خلال أبسط الأشياء. وفي أحد تعريفات علم النفس، تتحقق السعادة عندما تزيد عدد المشاعر الإيجابية على عدد المشاعر السلبية، بالإضافة إلى ارتفاع تقييم الإنسان مستوى رضاه عن نفسه وحياته، وخلصت بعض الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من التغييرات المزاجية محكومة بالعامل الوراثي بالدرجة الأولى، حتى أن الظروف الطارئة المسؤولة عن فرحنا أو حزننا لا تغير مزاجنا إلا بشكل مؤقت، لنعود إلى حالتنا العاطفية الطبيعية. وثمّة من يرجّح أن السعادة قرار أو هدف في وسعنا بلوغه، لو أخلصنا السعي والمثابرة والعناد في سبيل تحققها. قد يبدو الأمر شاقا، لكنه ليس مستحيلا، كونه مرتبطا بالإرادة وروح المقاومة والرغبة الحقيقية في إحداث التغيير. وإذا ما تحققت لنا السعادة التي ننشد، فحتما سوف تترتب عليها آثار إيجابيه قوية على سلوكنا، مثل التفكير الإيجابي والثقة بالنفس. وبالتالي، القدرة على تخطّي الصعوبات وتحقيق الأهداف.
اقترنت السعادة عند أرسطو بسد النواقص، وهي تختلف من شخص إلى آخر، فإذا كان مريضا يعطي الأولوية للصحة، وإذا كان فقيرا يعطيها للمال. وقد أكد أرسطو أن السعادة ترتبط بالمعرفة، وهي ليست أمرا تصنعه الطبيعة، فنحن لا نولد سعداء، بل نصبح كذلك، في حين قرن النفري المعرفة بالشقاء في عبارته الشهيرة "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة". وربط إيمانويل كانط بين السعادة والفضيلة، لما تنطوي عليه من خلاص روحي مبعثه راحة الضمير والتصالح مع الذات والرضا عنها، أيا كان تعريفنا لمفهوم السعادة فإنه يظلّ مسألة شخصية بحتة، يمتلك الفرد وحده تحديد ملامحه وكيفية الوصول إليه هدفا أسمى، يضيف للحياة معنى، ويحفّزنا على الإصرار والتحدّي، مهما بلغت المشاقّ والأحزان. نترفّع عنها ونصبر عليها، أملا دائما بتخطّيها للوصول إلى نقطة التوازن، حيث يكمن وعد السعادة التي ستطرق أبوابنا ذات يوم على أهون سبب، يقينا لا شكّ فيه.