عن بشرٍ غيرنا اسمُهم الشعب السوري
حين اشتعلت في مصر ثورة يناير، لم يكن الانتصار على الدولة في مفاهيم من قاموا بها، على تنوّعهم، هو إسقاطها بالكلية، بل إسقاط حسني مبارك، ثم تغيير المنظومة. كان الانتصار المرجوّ من "شباب يناير"، وما زال، هو انتصار النظام على الفوضى، سلطة القانون على حكم المحاسيب، قيمة التخصّص على أوهام العسكري الذي يصلح لكل شيء، فِكر الاستقلال على التبعية، المواطنة على التغريب السياسي، حبّ الحياة على تجريمها باسم الوطنية، أو تحريمها باسم الدين. هذا هو المعنى من وراء انتصار الثورة في بلدٍ عرف الدولة قبل أن تعرفها أدبيات التاريخ والعلوم السياسية. ولا يمكن لمصريٍّ عاقل أن يتمنّى أو يتخيّل أن تكون الحرب الأهلية أو حمل السلاح على مؤسّسات الدولة إحدى وسائل التغيير.
لهذه الأسباب، لجأت الدولة المصرية، في آخر أيام مبارك، إلى التهديد بغياب الدولة، فسحبت الشرطة، وفتحت السجون، وأطلقت اللصوص في الشوارع، باعتبارها إجراءات عقابية، و"إرهابية" بالمعنى الحرفي، فكانت اللجان الشعبية هي ردّ الثورة والمواطنين على حدّ سواء. هذه هي تجربتنا، وهي ليست بالضرورة تجربة الآخرين، ومحاولة قياس تجارب الآخرين على تجاربنا من دون أدنى معرفة بتجارب الآخرين فعل مستهتر ومضلّل، وأحياناً، وعن عمد، كاذب.
يحتاج المحلل المصري أن يقف على حقائق بديهية، يعرفها أي قارئ، ولو على خفيف، للشأن السوري، فالاتهام بخدمة المصالح الإسرائيلية ثيمة مكرّرة في خطابات النظام السورى يجرى استدعاؤها لأتفه الأسباب، خذ مثلاً: بدأت الثورة السورية بجملة كتبها أطفال على حائط مدرسة "أجاك الدور يا دكتور". قبض النطام السوري "الوطني" على الأطفال، وحين ذهب أهلهم لاستردادهم باعتبارهم "عيالاً" ومتأثرين بما رأوه على الشاشات في تونس ومصر، ردّ النظام بأن هؤلاء الأطفال متآمرون لصالح إسرائيل. ورغم إبداء محللين إسرائيليين تخوفهم من سقوط الأسد، ووصول إسلاميين متوافقين أيديولوجيا مع "حماس" إلى حكم سورية، ما يمثل تهديداً لأمن إسرائيل، إلا أن المحلل المصري شرب مقلب إسرائيل إلى آخره، واندفع، مجّاناً أو مغازلةً للنظام المصري، يردّده وراء أبواق النظام السوري، إنها المؤامرة، إنه نتنياهو وترامب وأردوغان وهلم جراً...
هل حقّا الحرب في سورية بين الدولة والمليشيات الإرهابية؟ انتشرت تدوينة مهمّة للكاتب المصري محمد نعيم، تحاول أن تشرح هذه الفكرة. وسبب انتشار التدوينة شرحها البديهيات، وهي أكثر ما يحتاجه الداخل المصري في كل حادثٍ وحديث. وخلاصة كلام نعيم أنه لا دولة في سورية أصلاً، فقد أعلنت الدولة السورية الحرب على سورية، وضربت مدنها بالطيران، وبالبراميل المتفجّرة، وأبادتها، وهجّرت سكانها، وحوّلتهم إلى لاجئين وجثث على شواطئ أوروبا. ولم تفعل ذلك كله بمفردها، بل بالاستعانة بجيوش روسيا وإيران وحزب الله وغيرهم من الأجانب. الأمر الذي استدعى بدوره ردّ الفعل الطبيعي والبديهي وفقاً لقوانين الفيزياء قبل الحروب، فحملت الثورة السورية السلاح دفاعاً عن نفسها وعن مدنها وعن بيوتها وعن أطفالها. وما زالت تفعل الشيء نفسه، وهو ما ينفي فكرة مواجهة دولة لمليشيات إرهابية، فقد تجاوزت سلطة بشّار الأسد كل مفاهيم الدولة، واحتكارها العنف، وفق الشرط القانوني، وتحوّلت إلى مليشيا مسلّحة وإجرامية تهدف إلى البقاء في الحكم ولو على جثث المحكومين، فالمليشيا المسلّحة في سورية هي بشّار وحلفاؤه. أما الجيش الوطني، فهو فصائل الثورة السورية التي تدافع عن الأرض السورية، وتحمي المواطنين السوريين، وتحرّرهم من سجون مليشيات الأسد، وتعيد المشرّدين إلى بيوتهم ومدنهم. هذه هي معادلة الواقع هنا في سورية، والآن.
قد يكون وجود فصيل إسلامي جهادي معادٍ للحريات والديمقراطية في معادلة المقاومة المسلحة أمراً مقلقاً على المستقبل، لكن الحاضر، كما يراه السوريون في المدن المحرّرة، أكثر بؤساً من أي متخيّل سياسي قد يحدُث وقد لا يحدُث. والأولوية، وفق أصحاب الهَم، إزاحة مليشيات بشار، وعودة السوريين إلى بلادهم، وتحرير أكثر من 150 ألف معتقل، ثم خوض معركة الحرّيات، فكل المعارك بعد بشّار ممكنة.