عن رحيل أمٍّ مقدسية
عن رحيل أم الكاتب عيسى القواسمي وأخيه الفنان شهاب في القدس.
بدءا من اليوم، وبقرار رحيلٍ ممهورٍ بضحكتها وخجلها الطفولي، لن أسكب لها فنجان قهوتها المسائي الذي اعتدت أن أسكبه أمام عينيها اللتين لا تحبّذان منظر فنجان القهوة المنتظر بقدر ما كانتا تحبّذان رفقتي ووجودي أمامها، فاليوم عليّ أن أؤمن تماما بأنها نامت نومتها الأخيرة والطويلة، وأن الليل فقط هو الذي سيكتب لنا لقاءً في حلم، وسوف يحرص على ذلك، لأني لن أستطيع العيش من دون أن تسكب طمأنينة على أحوالي المريرة بابتسامتها.
في هذه المرّة، ومع نومتها الطويلة، لن تنسى، ولن أضطرّ لكي أجيبها للمرّة الخامسة عن سؤال عالقٍ أجبتها عنه أربع مرّات متتالية، وفي كل مرّة تجدني قد فتحت لها مغاليق القلب، وبُحت بالجديد، وأنا أعتقد أنها أصبحت تنسى، وأنني أكرر الإجابة نفسها. ولكن هذه المرة سوف تسأل وسوف أجيب، وسيكون أول سؤال لها عن القدس التي تركتها هناك، لكي تستريح ثم تبوح لي بابتسامة طفلةٍ خجول أن القدس في قلبها وكذلك أنا.
أنت ماهرةٌ، يا أمي، بقرار رحيلك، كنت تقولين إن يوم الجمعة هو يوم عرس القدس، فكيف بيوم جمعة من شهر رمضان، فقرّرت أن تُزفّي في يوم الجمعة، وحيث شهد حفلَ زفافك آلاف من أهل المدينة ومن خارجها، هناك من حملوك على أكتافهم، وأنت تمشين بينهم متبخترة وتحملين، منذ خلقت وحتى لحظة زفافك هذه، همّ المدينة معك، وتسألين وهم يسرعون بك الخطى المحمّلة بالمسك وعطر العمر والذكر هم القدس، وتسألين ولا أحد يسمع السؤال هذه المرّة: كيف أصبحت المدينة وثاني جمعة من شهر رمضان تتمدّد على ساحاتها ومطلاتها وأزقتها وبيوتها وأهلها؟
اليوم، يا طيبة، تقرّرين مشوارك الأخير، وروحك ترفرف فوق أقدامنا التي أطاعت قرارك، فمشينا بك جميعا، مثل عطرٍ جرى قربك، فأصبحنا، يا أمّي، وأنت تتركينا في هذا العمر، وكأننا ولدنا من جديد، لكي نبقى في القدس أكثر، فأعمارنا تمدّدت ونحن نعاهدك أن نمضى على صراط الأمكنة، بعد أن أوقعتنا القدس في مصيدة للحنين، والتي تبدو مثل امرأة مشاغبةٍ تعاكس الكون بشفتيها، حين تُرخي ضفيرتها فوق كتف الصباح بدلالٍ بائن.
يا أيتها الراحلة المدوّنة في سجل الغائبين اسمها، بعد أن أكملت مهمّتك، فجعلتني أعيش ممتلئا بالشغف نحو مدينتي، رغم أنني قد ولدت فارغا إلا من روحي وقدري، إلا أن امتلائي بتلك المدينة جعلني قادرا على أن أكمل النقص مني وبي، بقداستها وعذاباتها ورباط الصبر فيها، مؤكّدة عليّ، يا أمّي المقدسية الغالية العالية، أن جرح هذه المدينة هو جرح الكون الأول، رغم أنها مدينة الله في الأرض.
تذكرين بالطبع، يا أمّي، يوم ولدت في بيت وادع قرب حائط البراق، والهدوء يلفّ المكان وقتها مثل طفلٍ ينبت في عمق زهرة، حتى احتلت القدس وهدم البيت، فسرقت طفولتي، وأصبح عمري مستباحا من كل عابر. أما قلبي، يا سيدة القلب، فقد كبر قبل الأوان، ولم يتوقف منذ ذلك الحين عن البحث عن حرارة النبض الأول بين الركام، رغم أن أيدي الأوهام قد تقاذفته وأصوات النزيف قد حاصرته، وحاولت أن تصم أذنيه ليفقد بوصلته.
اليوم، تتركيني، يا طفلتي ذات الضحكة البريئة التي حاولت أن تجعلها ماكرةً حين تضحك وأنا أفرك كعبي قدميها للمرّة الأخيرة. تفعلين ذلك وأنت تدركين أنني سأبقى امتدادا لضوءٍ أشعل قبل مئات السنين، فلا يمكن له أن يكون امتدادا لهذا الظلام الذي يلفّ العالم، فالقناديل في أزقة البلدة القديمة، يا راحلة، هي الماضي المشرق الذي كنت أنت البطلة فيه، فحلمك لا زال باسطا جناحيه هناك مع أحلام من أناروا لنا بدمائهم هذا الطريق الشائك، ومعلقا فوق شالك الذي كان يعتمر كتفيك والمطرّز بكل سنوات وجعك، وأنت تئنين فوق كاهل الثمانين، ولكنك تحاولين، أمام لهفتي، أن تظلّي يمامة ترقد بهدوء في عشٍّ يطلّ على البيت الذي كان قرب حائط البراق.