عن عنف المرأة وتعنيفها .. عبير موسي نموذجاً
اعتداء النائب التونسي، الصحبي صمارة، على رئيسة الحزب الدستوري الحر، النائبة عبير موسي، بالصفع والرّكل تحت قبة البرلمان فعل إجرامي، يستوجب العقاب أمام القضاء التونسي، إلى جانب كل النائبات والنواب الذين مارسوا العنف في فضاء الحوار والديمقراطية. تعرّضها للعنف البدني مرّتين من نائبَيْن محسوبَيْن على الإسلاميين يجعل منها ضحية، لكن النائبة موسي، وحتى عندما تكون في موقف هجومي، تحرّض على العنف أو تمارسه ضد خصومها، فهي تحرص على أن تظهر بمظهر الضحية المستهدفة من المؤسسة الحاكمة والإسلاميين خصوصا، لا لشيء إلا لأنها امرأة معارضة.
ويظهر تشبث موسي بمظلوميتها المطلقة خلال الهجوم الذي قادته ضد فرع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في العاصمة التونسية، بعد أن رفضت المحكمة الطلب الذي تقدّم به حزبها بتوقيف نشاط الفرع المرخّص له من سلطات البلاد. ببذلة شبه عسكرية، ومكبّر صوت لم يعد يفارقها منذ فترة، أطلقت موسي وأنصارها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، حملة "اعتصام الغضب" أمام مقرّ الاتحاد دامت شهورا، ثم تزعمت اقتحام البناية بالقوة يوم 9 مارس/ آذار 2021. كادت المواجهة بين أنصار حزبها وخصومهم الإسلاميين أن تتحوّل إلى اشتباكاتٍ دامية، لولا تدخّل القوات الأمنية لوقف الاقتحام وفض الاعتصام بالقوة، ما أحدث إصاباتٍ في صفوف الطرفين. وصفت موسي تدخل السلطات بأنه "محاولة إبادة جماعية" و"جريمة ضد الإنسانية"، في موازاةٍ غير عقلانية بين إبادة حقيقية كالتي قضت على حياة 800 ألف توتسي في رواندا وحادث لم تُزهَق فيه روح واحدة لحسن الحظ.
اشتدّت عدوانية عبير موسي بعد الثورة، وتضاعفت اعتداءاتها إلى أن أصبحت تطرد الوزراء من جلسات البرلمان
طوال هذه الحادثة الخطيرة، بدا وكأن النائبة وحزبها وأنصارها كانوا يحاولون استدراج خصومهم السياسيين المتطرّفين من فضاء البرلمان إلى الشارع، وجرّهم إلى مواجهات مباشرة علّها تطلق شرارة ثورة مضادة شاملة. سلوك النائبة موسي بين العنف والتعنيف يدفع متابع مسارها السياسي للتساؤل: أي نوع من الضحايا هي؟ ويتيح عمل الروّاد في علم الضحايا (victimology)، وفي مقدمتهم ستيفن شيفر، بنيامين ماندلسون أو عزت عبد الفتاح، تسليط إضاءاتٍ حول هذا الموضوع، فعلى الرغم من اختلاف تصنيفاتهم، هم يُجمعون على أن "الضحية البريئة" لا تكون لها أية علاقة بالجاني، ولا يكون لها أي دور أو ذنب في وقوع الجريمة ضدها، وهي غالبا ما تعود إلى وجودها في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. ويُجمعون أيضا على أنه غالبا ما يلعب سلوك الضحية دورا في وقوع الجريمة، ويتراوح هذا الدور بين المشاركة الجزئية، غير المباشرة، وعن غير قصد، إلى المسؤولية المشتركة في الجريمة أو الكاملة أحيانا، حين تشجّع الضحية على السلوك الإجرامي للجاني، أو الحثّ عليه، أو المشاركة فيه. ويتراوح سلوك الضحايا بين الإهمال والتسهيل والاستفزاز، وقد يبلغ حد المبادرة بعمل عدائي، يعود عليهم بنتائج عكسية.
استحضار بعض ما توصل إليه علم الضحايا حول سلوكيات الضحية ينزع عن عبير موسي صفة الضحية البريئة، فقد طبع العنف مسيرتها منذ بداياتها محامية تفانت في خدمة نظام زين الدين بن علي البائد. وقد ذكر التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة الذي صدر في منتصف العام الماضي (2020)، أنها كانت ضمن قائمة المحامين الذين كانوا يتقاضون مبالغ مالية من نيابة المؤسسات العمومية، مقابل التضييق على المحامين المستقلّين آنذاك. ويضيف أنها "تميّزت بالاعتداء على زملائها خلال الجلسات العامة (في عمادة المحامين) مثلما حدث مع محمد عبو".
اشتدّت عدوانيتها بعد الثورة، وتضاعفت اعتداءاتها إلى أن أصبحت تطرد الوزراء من جلسات البرلمان، وتهاجم الصحافيين، وتحتجز كاميراتهم، وتمنعهم من تصوير عمل البرلمان، بينما تقوم هي، برفقة أنصارها، بالتصوير المستمر والمباشر لكل ما يجري تحت قبّته، بما في ذلك اجتماعات اللجان المغلقة، ونشر المواد على مواقع التواصل الاجتماعي من دون إذن من المجلس أو النواب، ما اضطرّ زملاء لها إلى العمل أحيانا بسرّية، بعيدا عنها وعن تقويضها الممنهج للمؤسسة التشريعية التي تطالب بحلّها وتسعى إلى إسقاطها، عبر تعطيل الجلسات العامّة، وقطع مداخلات النواب، والمطالبة بنقاط نظام بعيدا عن ضوابط النظام الداخلي للمجلس، وتنظيم إضرابات داخل البرلمان بلا نهاية.
أثبتت دراساتٌ عديدة، انصبّت على تحليل عنف المرأة ضد الرجل، أن المرأة تميل إلى ممارسة العنف المعنوي أكثر من المادي
ولا يقتصر مشهد العنف على عبير موسي، فقد شهد البرلمان التونسي مشاركة نائبات أخريات في الشتم والقذف والتهجم على زملائهن، بمن فيهن رئيسة الحزب الدستوري الحر التي وصفتها النائبة سامية عبو بـ "الكلوشارة" (المتسكّعة)، ونعتتها النائبة المحجّبة عن حركة النهضة، جميلة كسيكسي، بـ”البلطجية"، و"البلوى". في آخر تقرير لها عن أشغال مجلـس النواب، رصدت منظمة "بوصلة" التونسية أكثر مـن 20 حالة عنف بشتى أنواعه: المعنوي والسياسي والمادي. واستفرد حزب موسي بمركز الصدارة، متفوّقا على كتلة ائتلاف الكرامة وحركة النهضة وكتل برلمانية أخرى، بارتكابه سبع حالات عنف ما بين أكتوبر/ تشرين الأول 2020 وفبراير/شباط 2021.
التلاسن والشجار يعمّان برلمانات العالم، خصوصا الديمقراطية منها، وقد تنزلق المواجهات الحزبية نحو العنف من حين إلى آخر. وحين تشترك المرأة البرلمانية في مثل هذا العنف أو تتزعمه، فإنها تُعرّض نفسها إلى أن تصبح ضحيته، ليس لأنها امرأة، ولكن لدخولها دائرة العنف الذي لم تكن أبدا حكرا على الرّجل. لكن بعض الحركات النسوية عادة ما تصرّ على براءة المرأة في جميع الظروف والتضامن المطلق معها، ضحية كانت أم جانية؛ موقف لا يخدم منطق المساواة الذي تنطلق منه حين يخدم مصلحتها، وتزيحه متى وجبت على المرأة مواجهة عنفها ضد الآخر، الرجل تحديدا.
لقد أثبتت دراساتٌ عديدة، انصبّت على تحليل عنف المرأة ضد الرجل، أن المرأة تميل إلى ممارسة العنف المعنوي أكثر من المادي، لأسبابٍ اجتماعية، ثقافية وبنيوية. وهذا أيضا ما كشفت عنه دراسة تقريبية أجرتها "الجمعيَّة التّونسيَّة للنّهوض بالرّجل والأسرة والمجتمع" في عام 2019، ورصدت تَعرُّض نحو 10% من الأزواج في تونس للعنف الجسدي، و45% للعنف اللفظي والنفسي الذي يحطّ من كرامتهم ورجولتهم. لكن القانون التونسي، مثل جل القوانين في المنطقة العربية، لا يعترف بالرجل ضحية لعنف المرأة، ويقتصر في تعريفه العنف المعنوي أنه: "كل اعتداء لفظي كالقذف والشتم أو الإكراه أو التهديد أو الإهمال أو الحرمان من الحقوق والحريات والإهانة والتجاهل والسخرية والتحقير وغيرها من الأفعال أو الأقوال التي تنال من الكرامة الإنسانية للمرأة أو ترمي إلى إخافتها أو التحكّم فيها".
حركات نسوية عادة ما تصرّ على براءة المرأة في جميع الظروف والتضامن المطلق معها، ضحية كانت أم جانية
ولا يقتصر هذا الوضع على تونس، فقد كشفت الشبكة المغربية للدفاع عن حقوق الرجال عن استقبالها 24 ألف حالة عنف ضد الرجال ما بين 2008 و2019، وقالت إن 25% من الحالات التي تَرِد عليها سنويا تتعلق بعنف جسدي، إضافة إلى عدة أشكال من العنف النفسي. ولتوسيع نطاق فهم العنـف بمصدريْه، الأنثوي والذكوري، أجرت المندوبية السامية للتخطيط في المغرب بحثا شارك فيه ثلاثة آلاف رجل. وكشفت نتائج الدراسة، في إبريل/ نيسان الماضي، أن العلاقات الزوجية هي الأكثر اتساما بالعنف، حيث تعرض 37% من الرجال للعنف النفسي، بينما وقع 11% منهم ضحية العنف الجسدي من المرأة.
أربك هذا البحث عدة حركات نسوية تقوم على أساس مناهضة العنف ضد المرأة، وكانت "الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب" في مقدمة المحتجّين على هذه الدراسة والمشكّكين في مصداقيتها، بناءً على إنكارها حقيقة عنف المرأة ضد الرجل، وتقليلها من خطورة العنف النفسي الذي تمارسه. الغريب في هذا الموقف أن الحركات النسوية التي تتبنّى التحرّر والحداثة، وتسعى إلى تمكين المرأة في تونس والمغرب وباقي البلدان العربية، هي أول من يرسّخ تنميط المرأة بدور الضحية البريئة لتخصّ الرجل بالعنف، في حين أن الحداثة تستلزم التحرّر من هذا القالب الجنساني الرّجعي الذي يشيطن الرجل ويُملكن (من ملاك) المرأة، وتستوجب الانخراط في نضال إنساني يناهض العنف والتسلّط والاستبداد الذي ما كان ليسود مجتمعاتنا لولا اشتراك المرأة فيه.