عن لبنان "ما بعد الدولة " والمجتمع العسكري
شهدت الجبهة الشمالية الإسرائيلية، أخيراً، ذروة التصعيد فيها، بفعل تبادل القصف والصواريخ بين الاحتلال وحزب الله، واستمرار نزوح عشرات العائلات، وبعد تهديدات الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، جزيرة قبرص وما بعدها، وتلميحه إلى أن جبهات مقاومة ستشارك في القتال. وتركت هذه التصريحات تبعات داخلية وخارجية وتقديرات متباينة في قراءة المشهد الميداني والتصعيد العام، بما هو حاصل فعلاً على الجبهة الشمالية، وباستشراف السيناريوهات المتوقعة وحدوث أيٍّ منها.
تكشف الأرقام عن تنفيذ الحزب قرابة ألفي عملية مختلفة، فيما نفذت قوات الاحتلال منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، نحو خمسة الآف عدوان، ما يعني أن وتيرة التصعيد قائمة، وكذلك عواملها المؤثرة.
وتجد تهديدات إسرائيل معناها في انعدام الرؤية السياسية في غزّة، وتخبّط رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في استحقاقات داخلية سياسية، ولجهة ما يواجهه الاحتلال من تحدّيات عسكرية قتالية من حركة حماس غير مسبوقة، تعيق تحقيق أهداف الحرب، ولجهة حالة التوتر غير المسبوق بين واشنطن وتل أبيب على خلفية تأزم الحرب وتمدّدها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، من دون بروز أي مشروع سياسي تديره الأمم المتحدة. أما التهديدات التي يطلقها نصر الله، فقد لا تجد طريقها إلى التنفيذ، خصوصاً لجهة الانخراط الإيراني في أي مواجهة مفترضة، فقط التلويح بها لكسب أوراق جديدة في الضغط على الإدارة الأميركية الجديدة، فيما يمثل توقف الحرب "الكلمة السحرية" لوقف التصعيد والدخول في تسوية شاملة تتطلب اهتماماً دولياً.
واضحٌ أن لحزب الله مشروعه الخاص المنفصل عن المجتمع اللبناني، سيما حين يضعف الأخير، ويخلّ كثيراً في حيواته وأدواته
وفّرت الحرب في غزّة والظروف الداخلية فرصة سياسية لحزب الله، للسيطرة على الخطاب السياسي في لبنان، وعلى المواقف المعارضة غير المواتية في سياق الجدل الداخلي، وفي ظل الجمود التام في الملف الرئاسي، والعجز عن تقديم إجابات على المستويين، المالي والاقتصادي. يحاول الحزب تسجيل نقاط بما يملكه من إمكانات عسكرية كبيرة من خلال فتح جبهة الحرب والاستثمار في القضية الفلسطينية ليواصل قمع الحريات، وما يسمّى جوهر الفكرة اللبنانية. يريد الحزب لبنان كله من خلال تعطيل عمل المؤسّسات الدستورية وفرض رؤيته للعلاقات الدولية وبين القوى السياسية. ويتيح له التهديد في تأطير أوسع الوصول إلى جمهور عريض في بيئته، ينظر إليه على أنه مطمئن في أوقات الأزمات الكبرى. وكأنه لم يبق من لبنان الرسمي من أثر في رصد خطابات نصر الله أخيراً، وعروضه المنفردة بعمل مباشر ميداني، أو إيديولوجي، أو التحرّك في مساحات داخلية وخارجية أوسع، ولو أدّى ذلك إلى تأصيل الحضور الإيراني وانغلاق لبنان عن بقية العالم.
واضحٌ أن لحزب الله مشروعه الخاص المنفصل عن المجتمع اللبناني، سيما حين يضعف الأخير، ويخلّ كثيراً في حيواته وأدواته، فيلعب الحزب دور السلطة من وراء غيتوات عازلة وبنرجسية قاطعة، وسط التماهي القائم على تبعية أطراف في السلطة لظاهرة باتت تقلق العالم بما تملكه من قدرات نافذة وفاعلة عسكرياً، فينتقل لبنان من خطر إلى خطر على شفير هاوية.
إذاً، لبنان تقريباً بلا دولة "موضة قديمة"، تجرّدت من هويّتها السيادية والسياسية، والحزب يتصرّف في زمن "ما بعد الدولة"، في تسويغه حرباً لن تبقي على أثر، حين يتفحّص اللبنانيون ما يجري في غزّة، ثم ينظرون فيجدون نظاماً سياسياً مجمّداً، وما يعيشونه من دون حرب يستولد هزيمة وانطواءً وانغلاقاً ويأساً وتراجعاً على جميع المستويات، خارج كل الخيارات العقلانية والديمقراطية وثقافة المجتمع المدني.
يستهلك لبنان خسائره ويأسه، فلا يبقى فعل إبداعي غير الحرب وحدها، ولا عدّة لنقدها في مرحلة ضبابية سديمية، يبدو كل شيء فيها على شفا وداع للكيان. وقد بدأت ملامح هذه الظاهرة منذ نهاية الثمانينيات، قطعتها مرحلة منفصلة تماماً أضاف إليها رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، صفة من صفاته العمرانية والبنائيّة في علاقات لبنان العربية والدولية، قبل أن يختبر الحزب فعاليته بعد عام 2006، ويصادف أن مجموعات سياسية لبنانية انعطفت في الاتجاه نفسه لتوسيع هذه الثغرة.
من الخطأ في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني أن يذهب لبنان إلى تحميل نفسه أعباء حربٍ فوق ما تتحمل طاقته
وقد بدأت لحظة الحزب تؤتي ثمارها، فيتجاوز نصر الله "الخطوط الحمراء"، يحاول أن يحسّن أهدافه بشكل جيد للغاية، فيهدّد قبرص وعبرها المجموعة الدولية. ينسف النظام اللبناني وما يتعلق بالرأي العام، وتصير الأولويات نهب رياح الحرب. وعلى الرغم من التحوّل في البراغماتيات، (نزعة المحاصصة والانخراط في نظام الطائف والرغبة في تجاوز الانقسامات ومخاطبة أكبر عدد من اللبنانيين لتجاوز الواقع الشيعي من خلال الظهور بمظهر مختلف)، لم ينفصل الحزب تماماً خلال 25 عاماً عن الإسلاموية في نظرته إلى المجتمع اللبناني. ثمّ لينتقل حالياً إلى البيئة الدولية والسياق الإقليمي في الاستجابة الكليّة لمستوى آخر من حضوره خلف مناخات خطاباته في جزء من التصعيد الثيوقراطي "غير الليبرالي"، الذي يتمّ باسم فلسطين وباسم الصالح العام. وفي وقتٍ يهدد فيه بعض الشارع المسيحي بالفدرالية، ما عاد المسؤولون التنفيذيون في الحزب يخفون عدم تمسّكهم باتفاق الطائف في حملة ثقافية وإعلامية تعكس خصوصية الحزب الإقليمية، بالتماهي مع الحرس الثوري الإيراني (يقبض على معظم المؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية، بما فيها مصلحة تشخيص النظام). يسعى الحزب لتحقيق مكاسب سياسية بعد الضرر الذي ألحقته به انتفاضة الاستقلال 2005، وانتفاضة 17 تشرين (2019)، كأفق حيوي لثقافة مدينيّة وخصائص المساحة على أرض أمان لطوائف مختلفة، بما في ذلك نبض لبنان مع فلسطين. ويعرف الجميع أن بين لبنان وإسرائيل صراع مصير طويلاً، ويدركون أن الشعب الفلسطيني يُرابط منذ قرن على خط المواجهة الأمامية ولا يزال، لا يدافع عن وجوده الوطني فحسب، بل هو يواجه خطراً يصيب كل أرض الجوار العربي. لكن من الخطأ في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني أن يذهب لبنان إلى تحميل نفسه أعباء حربٍ فوق ما تتحمل طاقته. ويعتبر المدافعون عن صيغة النظام، يعتبرون الحرب المقترحة "الشجرة التي تخفي الغابة" من التشكيل الجديد لعسكرة المجتمع في اعتداء غير مسبوق على "الفكرة اللبنانية"، أقصر الطرق نحو الحرب الأهلية.
إحساس اللبنانيين بأنّ مثل هذه التصريحات تجعل بلدهم في غير مكانه الأصلي، وتُنذر بالأسوأ، ولا يجدون وسيلة لتنظيم أنفسهم للحماية من حربٍ ستتمكّن منهم أكثر وتهدّد مجتمعاتهم، ولا يملكون وسيلة للتخفيف من حدّة اندفاعة الحزب الذي ينظم نفسه لحربٍ يصرّ عليها، لأن إيران لا تريد أن تخسر جبهة الجنوب، وفي تصعيد لحثّ حركة حماس على عدم التفاوض والتسوية، فيملأ نصر الله كل الوقت بأخبار الحرب، ولا يسمح للدولة ومؤسساتها بالعمل. والأخطر حين يعتبر أن أسلوب حياة اللبنانيين مستورد، وهم في واقعهم يواجهون غياب أي برنامج نهوض يلبّي حاجاتهم الأساسية، أو التعامل بجدّية مع خطة عملانية لاحتمالات حرب إسرائيلية، تأخذ بالاعتبار وضع كل المرافق الحيوية وخطّة السلامة في المطار والمرافئ، كما الوضع النقدي ودور الجيش في أي عملية محتملة، إلى أزمة اللجوء السوري.