عن منظّر ولاية الفقيه والديمقراطية الدينية
آية الله حسين علي منتظري (1922-2009) إحدى الشخصيات المهمة والرئيسية في فهم التحوّلات الفكرية والأيديولوجية الشيعية المعاصرة، وفي الاقتراب من الحالة الدينية - السياسية الإيرانية (أيضاً). وليس من المبالغة القول إنّه من مؤسّسي مفهوم "الديمقراطية الدينية" ومرسّخيه بوصفه نظاما للحكم، آمن به، واستمرّ على الإيمان به، بالرغم من التحوّلات المهمة البنيوية التي قام بها على صعيد الفقه السياسي الشيعي.
يطرح الكتاب المهم "الفلسفة السياسية والاجتماعية عند المنتظري"، للباحث عماد الدين باقي (ترجمة صادق العبادي، مراجعة عبدالله الطائي، معهد السياسة والمجتمع، عمّان، 2022)، التحوّلات والمراجعات التي حدثت عند منتظري، الأمر الذي وصل به إلى حدّ "نقد الذات"، كما ظهر في كتاب يحمل هذا العنوان ألّفه ابنه سعيد، وهو خلاصة نقاش وحوار مع والده عن تجربة الثورة الإيرانية وتجربته الشخصية (ترجمته فاطمة الصمادي وراجعه صادق العبادي).
أهمية الكتاب وقيمته في أنّه يرصد، بصورة معمّقة، التحوّلات الأيديولوجية والفكرية التي عند منتظري، تحديداً في ما يتعلّق بتجذير مفهوم "ولاية الفقيه"، ووضع أسس النظام السياسي الإيراني، وقد كان منتظري من أقرب المقرّبين من الخميني والرجل الثاني فترة طويلة في إيران، وأحد أبرز العلماء المجتهدين الشيعة. وانتقل لاحقاً نتيجة التجربة السياسية الواقعية في المفهوم (ولاية الفقيه) من طور القداسة والتعيين وتغييب الإرادة الشعبية إلى مساحة مختلفة تماماً تقوم على القبول الشعبي، فربطها بالانتخاب الشعبي أولاً، وبالتقييد الزمني ثانياً، واقترح كذلك دمج سلطتي الولي الفقيه ورئيس الجمهورية، بدلاً من أن يكونا شخصين اثنين يكونان شخصا واحدا، وهو رئيس الجمهورية والولي الفقيه في الوقت نفسه، وأن يجري انتخاب مجلس صيانة الدستور بواسطة الشعب، وبترشيح من القانونيين، وتعديل وظائفه وتحجيمها.
قام منتظري بعملية حفر عميق ومراجعة النصوص الدينية وقراءتها بما يخدم التفسير الجديد، ويخرجه عن المسار الذي تأطّر به بعد الثورة الإيرانية
من الواضح، حتى بإقرار مؤلف الكتاب، أنّه لم يخرج، في آرائه الأولى والأخيرة، عن المرجعية الفقهية، وعن المجال العام للديمقراطية الدينية، بالرغم من القفزة الكبيرة التي أحدثها في مجال الفقه السياسي الشيعي نحو تجفيف منابع الاستبداد دينياً وفقهياً، وإعادة تأويل النظرية السياسية الشيعية، بما يجعلها أكثر اقتراباً من النظرية الديمقراطية وأكثر مرونة وإمكانية للتقدّم خطوات للأمام في هذا المجال. وقد قام منتظري بعملية حفر عميق ومراجعة النصوص الدينية وقراءتها بما يخدم التفسير الجديد، ويخرجه عن المسار الذي تأطّر به بعد الثورة الإيرانية، بخاصة أنّ ذلك المسار، وفقاً لمنتظري، أدى إلى الاستبداد.
الجميل في الكتاب أيضاً أنّه لا يأخذ تحوّلات الرجل ومراجعاته بعيداً عن السياقات الذاتية والسياسية، فهو يربطها بالمراحل التاريخية والأطوار التي مرّ بها، من مرحلة التحريض والدعوة إلى الدولة والسلطة، ثم الإصلاح في داخل السلطة، ولاحقاً المعارضة الصريحة، وصولاً إلى الإقامة الجبرية والتنكيل والوفاة، إذ قسّم باقي مراحل الرئيس محمد خاتمي مع تطوّر نظريته السياسية إلى أربع مراحل: الأولى، الشباب حتى انتصار الثورة (1940-1979). والثانية، من انتصار الثورة حتى 1988 (وفيها تقلد منتظري مناصب عليا منها قائم مقام الولي الفقيه). والثالثة، منذ 1988، عندما عُزل عن موقعه، وبعدها بشهرين توفي الخميني. والمرحلة الرابعة، منذ انتقاله إلى المعارضة والنقد، إلى حين وفاته في 2009.
المفارقة أنّ مؤلف الكتاب عماد الدين باقي هو نفسه أحد الذين ابتلوا في السجن على فترات متعدّدة، بسبب آرائه السياسية ومطالباته بالإصلاح، وأحد المقرّبين من منتظري، وقد كتب فصولاً في السجن. وقد قصّ علينا مترجم الكتاب (صادق العبادي) قصة تأليف الكتاب وترجمته، وهي بحدّ ذاتها تمثّل توثيقاً وتوصيفاً للصراع السياسي ذي الطابع الديني، ودور أفكار منتظري ومدرسته في رفد المدرسة الإصلاحية بالسلاح الأيديولوجي والفقهي في المواجهة مع المحافظين والتيار المتشدد.
مدرسة منتظري من أهم المدارس الإسلامية عموماً، والشيعية خصوصاً، على صعيد الفقه السياسي والأخلاق والمجتمع والفلسفة
من الفائدة المضاعفة أن يتزامن صدور هذا الكتاب مع كتابٍ آخر لمعهد السياسة والمجتمع في عمّان، "الحوزة والدولة: الإسلام الشيعي.. أسئلة السلطة والمرأة والجيوبوليتك"، وهو حصيلة دراسات وأوراق مؤتمر عقده المعهد مع مؤسسة فريدريش أيبرت الألمانية، ويتضمّن أبحاثا ودراسات مهمة عن الثورة الإيرانية والتحوّلات الفكرية والسياسية والجيوبوليتكية المرتبطة بها. ومن أهم الفصول دراسة محسن كديفار، أحد أبرز تلاميذ منتظري ومن العلماء الشيعة الإصلاحيين المعتبرين، وقد بنى دراسته على نحوٍ شبيهٍ بما فعله شيخه من إعادة تفسير النصوص والإرث الفقهي الشيعي، بما يقرّبه أكثر من النظرية الديمقراطية، ويبعده عن مفهوم ولاية الفقيه، بالكلية، عن منظور الخميني وسياسات تطبيقها في إيران.
بالرغم من هذا التحوّل الرئيس الذي أحدثته مدرسة منتظري، ومن النقلة المهمة التي قامت بها على صعيد الفكر الشيعي؛ إلّا أنّ التحوّلات الموازية في الإسلام السياسي السنّي كانت أكثر اندفاعاً نحو القبول بالديمقراطية، بوصفها نظاماً نهائياً للحكم، والتخلي عن كثير من مقولات التراث السياسي الإسلامي. ولعلّ المقارنة في هذا المجال واضحة تماماً بين الحالتين الإيرانية والتركية (حزب العدالة والتنمية التركي) وحتى مع حزب العدالة والتنمية المغربي. وبالضرورة، لا يمكن فهم هذا التباين في التحوّل إلّا في السياقات السياسية؛ فالتجربة الدينية - السياسية الإيرانية مختلفة بالكلية عن التركية، وفي السياقات الفقهية والتراثية بين التراث الشيعي (مبدأ التنصيص) والاختلاف، كذلك، في التجربة التاريخية. مع ذلك، تبقى مدرسة منتظري من أهم المدارس الإسلامية عموماً، والشيعية خصوصاً، على صعيد الفقه السياسي والأخلاق والمجتمع والفلسفة.