عودة الفدائيين
يرسم الشباب الفلسطيني الجديد طريقا مختلفا، يرجع إلى البدايات الأولى التي تشكل فيها الوعي النضالي بالاحتلال، وشرعت النخب تبحث عن طرق للمواجهة، ما قاد إلى ولادة الاشتباك مع العدو سياسيا وعسكريا، وهذا أهم عمل وطني قام به الكبار قبل نكسة 1967. ومن بعد حوالي ثلاثة عقود من النضال على مختلف الجبهات، حلت الانتكاسة الكبيرة بالدخول في نفق أوسلو عام 1993، الذي ترتب عليه الاعتراف بإسرائيل وإنهاء العمل العسكري المسلّح، وكان المفروض أن تكون هذه المحطّة بداية لمسيرة سلام بضمانات دولية، ولكن إسرائيل التفّت على ذلك، وتراجعت عن تنفيذ الاتفاق، وأعادت احتلال أغلبية الأراضي التي انسحبت منها، ودخلت في مواجهة مع السلطة الفلسطينية بعد الانتفاضة الثانية، واغتالت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي كان قد بدأ بالمراجعة بعد أن تبين له عقم "أوسلو"، ووهم الضمانات الدولية.
يتبيّن من العمليات الفدائية التي حصلت خلال الأسابيع الأخيرة أن منفّذيها فتحوا أعينهم على الحياة في ظل "أوسلو"، وعاشوا في هذا الزمن السوريالي المدجّج بالمستوطنات ومصادرة الأراضي والمنازل، كما حصل في حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة في العام الماضي، بالإضافة إلى سياسات التضييق التي تفاقمت كثيرا منذ "أوسلو"، وهذا ما يشهده العالم اليوم من إرهاب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وحصار لقطاع غزة. وما يقوم به الجيل الذي ولد في ظل "أوسلو"، من خلال العمليات الفدائية، هو محاولة لتصحيح أخطاء "أوسلو" والتعايش مع الاحتلال. هو وصل للزمن الفلسطيني الرافض للاحتلال، زمن المقاومة بشتى أشكالها التي يتأكد أنها الأسلوب الوحيد لإنهاء هذا الوضع المزري، الذي وصل إليه الحال الفلسطيني، وبات استمرار انحداره يهدّد بتصفية القضية، بعد أن جرى تهميشها دوليا وعربيا، ولم تعد تحظى بالاهتمام الذي كانت تحوزه قبل "أوسلو".
ترسل هذه العمليات رسائل قوية إلى القيادة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية والمجتمع الدولي، فحواها أن على القيادة الفلسطينية أن تجد مخرجا سريعا من المأزق الراهن، وأول خطوة يجب القيام بها إجراء مصالحة فلسطينية، تفتح الطريق لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، من أجل وضع استراتيجية تلم شمل البيت الفلسطيني، وتوجّه الطاقات نحو التصدّي لمشاريع الاستيطان والضم والمصادرة الزاحفة على قدم وساق، ومن شأن ذلك أن يقود إلى إجراء انتخاباتٍ تشريعيةٍ ورئاسيةٍ فلسطينية لبناء مؤسساتٍ تمثيليةٍ تنهض بالقضية الفلسطينية، والخروج من الوضع البائس الذي تعيشه السلطة الفلسطينية التي تتحمل قسطا أساسيا من مسؤولية التراجع الذي شهدته المسألة الفلسطينية في ظل اتفاق أوسلو. وما لم تغادر السلطة المربع الذي تراوح فيه، فإن القضية الفلسطينية سوف تواجه وضعا أصعب بكثير. وليس محل خلاف أن العمليات الفدائية وحدها لا تكفي، ولكنها تقول إن الوضع وصل إلى طريق مسدود، وتشكل عامل ضغط على القيادة الفلسطينية بأن تراهن على الشعب الفلسطيني، وتضع استراتيجية مواجهةٍ تقوم على المقاومة والتحرير، بدلا من سياسة الرهانات على حصول تغيير في السياستين الأميركية والإسرائيلية. وتقتضي المصلحة الفلسطينية التركيز على فضح السياسات الإسرائيلية التي رفضت منذ "أوسلو" أن تخطو خطوة جادّة تجاه السلام مع الشعب الفلسطيني، وذلك بدعم من الولايات المتحدة التي ساهمت من خلال صفقة القرن ونقل السفارة الأميركية إلى القدس في تقديم دعم كبير لإسرائيل، جعلها تبتعد أكثر فأكثر عن طريق السلام، وعلى المنوال نفسه، شجّع التطبيع من بعض العرب الحكومة الإسرائيلية على التهرّب من الاستحقاقات كافة، بما في ذلك الحد الأدنى من "أوسلو". ولكن الرسالة الأهم للعمليات أنها فردية، غير أن المنفذين ينتمون إلى الفصائل، مثل حركتي فتح والجهاد الإسلامي، ما يعني أن هناك قرارا بعودة العمل العسكري المنظّم سبيلا وحيدا لمواجهة الاحتلال.