غزّة حرّية وبس
تتطوّع غزّة، بين وقت وآخر، لتعليم الجميع بعض الدروس البسيطة. ورغم أنها أساسية جدّا، لا أحد يريد أن يتعلم منها. ترفض إسرائيل أن تستوعب أن عهد الاستعمار انتهى. أما العرب، فإنهم لا يملكون القابلية الكافية للتضحية من أجل الحرّية. ومع أن الدروس مجّانية، فهي عالية الكلفة، لأنها تتوالد من الحروب المتوالية على هذا الكيان الصغير. ويصرّ الجميع على أن يديروا ظهورهم للمكان وأهله، ليدفع هؤلاء ضريبة الحرية عالية، أكثر من أي شعبٍ على الأرض. وفي حساب إسرائيل، حياة الغزّاوي أرخص من حياة أي كائنٍ آخر، لأنها محسوبة بما تسمح به من حرية فوق الأمتار القليلة، التي يعيش عليها كل مواطن وُلد هناك، وبعدد الأطنان من المتفجّرات التي ترميها في كل حرب. وكلما كبر حلم أهل القطاع تقلّصت مساحة السجن. وكلما ازداد الحصار، ارتفع منسوب الأمل بالخلاص من الاحتلال، واستمرّ فتيل النار بالاشتعال، وولدت أجيالٌ جديدة غير قابلة للهزيمة، لديها إرادة لا تقهر، وأكثر إصرارا من الآباء والأجداد، على تقويض الأساطير والخرافات التي بنتها إسرائيل بالقوّة المسلحة.
تقتل إسرائيل في كل حرب آلافا من أهل غزّة. وتنسحب إلى المستوطنات وهي مطمئنة إلى أنها قضت على خطر هؤلاء، الذين لا يتركونها تُغمض عيونها وترتاح إلى حلم ابتلاع فلسطين. تمارس، في كل جولة، الكمّية القصوى من العنف والتدمير. ما هو فوق طاقة التحمّل بكثير، كي تجرّد أهل غزّة من حقوقهم في مياه نظيفة، وزراعةٍ خاليةٍ من السموم، ووصولٍ آمن إلى البحر. وتحصرهم داخل جدران هذا السجن المستطيل، الذي توكل للسلطات المصرية مفاتيح بوابته الجنوبية. ولو كان في مقدور هذه المستعمرة الغربية المدلّلة أن تقطع الأوكسجين عن غزّة، لما تردّدت عن فعل ذلك. هي التي لم تفكّر لحظة في عواقب إبادة آلاف الأطفال، وتدمير بيوت هؤلاء الفقراء، التي بنوها بتعبهم وشقائهم. وبعد أسبوعين من الحرب، تبيّن، من القدر الهائل للأسلحة التدميرية التي استخدمتها إسرائيل، أن القسم الأكبر من شمال قطاع غزّة لم يعد صالحا للسكن، وتحوّل إلى مقبرة كبيرة، مرشّحة لتوليد الأوبئة. وهذا أمرٌ اعترف به المسؤولون الإسرائيليون، الذين برّروا السماح بإدخل كميّاتٍ محدودة من الوقود، بأنه من أجل منع هذه الكارثة الصحية من أن تصل إلى جنودهم. وهم بهذا يعترفون بارتكاب جرائم حربٍ غير مسبوقة، ويسجّلون على أنفسهم تمييزا عنصريا مفضوحا.
يتّصف قادة اسرائيل بقدرٍ لا يُضاهى من جنون القوة. لذلك يجرّبون في كل حربٍ كل ما يملكون منها، ويطلبون من الولايات المتحدة المزيد. ولا تبخل عليهم واشنطن، حتى بقنابل الفوسفور التي تحرق التراب، وتحوّله إلى رماد. لكن أرض غزّة عنيدة، تستعيد خضرتها من جديد، وتعطي أهلها الإحساس بالقوة والشجاعة والتضحية، وتجدّد فيهم طاقة المقاومة. وفي كل حربٍ يتعهّد الإسرائيليون بأنها ستكون الأخيرة، وأنهم سيبيدون حركة حماس، ويغيّرون وضع غزّة كليا. ثم سرعان ما تعاود رفع رأسها، لتخرج من تحت الركام أقوى. ومع ذلك، لا يريد قادة إسرائيل تعلّم الدرس. وبدلا من ذلك، يرجعون إلى الدوران في حلقة مفرغة. وقد لا تكون هذه الجولة حاسمة، لكن غزّة لم تتكبّد هذه الأثمان، وتتحمّل كل هذا الألم، كي تعود إلى نقطة الصفر، وخصوصا أنه، إلى جانب الصمود والتضحيات الكبيرة، تبلور رأي عام عالمي، على نحوٍ لم يسبق له مثيل. للمرّة الأولى، يشهد العالم هذا الزخم مع الحرّية لفلسطين، وفي مواجهة الابارتهايد الإسرائيلي. ولذا، تشكّل الهدنة فرصة للتأمل. وكما في كل حرب، حينما تصمت المدافع تدقّ ساعة الحساب.