غورباتشوف بطل سلام أم معتوه وخائن؟

04 سبتمبر 2022
+ الخط -

مع وفاة ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم حَكَم الاتحاد السوفياتي، يوم 30 الشهر الماضي (أغسطس/ آب الماضي)، توالت برقيات تعازي زعماء الدول الغربية المشيدة بخصال الرجل الذي غيَّر مجرى التاريخ، فهو الزعيم الذي وضع بلاده على درب الحرية والديمقراطية، وهو رجل الإصلاحات السياسية والاقتصادية العميقة التي سمحت بالانفتاح على العالم الغربي، وهو رجل البيريسترويكا والغلاسنوست (إعادة الهيكلة والشفافية)، وهو رجل توسيع قيم الحرية والديمقراطية إلى المعسكر الشرقي، وهو رجل السلام الذي لولاه لم تنته الحرب الباردة، وجوزيَ على ذلك بتلقيه جائزة نوبل للسلام سنة 1990.

يحظى غورباتشوف في الغرب بشعبية جد مرتفعة، لئلا نقول مفرطة، لكنها عكس ذلك في بلاده وموطنه، في أصله وفصله، فقد اكتفى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتعزية أهله، قبل أن يتحدّث عن الرجل الذي قاد البلاد خلال "فترة معقدة ومأساوية مليئة بالتحدّيات السياسية الخارجية، والاقتصادية والاجتماعية". واكتفت هذه التعزية بالحد الأدنى من اللياقة والأدب حيال الحاكم السابق لإمبراطورية روسيا، أو ما سمي آنذاك الاتحاد السوفياتي، وبدا أنها تخفي حسرة الشعب الروسي وغصّته تجاه المسؤول الأول عن تفكيك إمبراطوريتهم التي حكمت نصف العالم خلال القرن العشرين، ولا أدلّ على هذه الغصة من رفض الرئيس المشاركة في جنازة الرجل بحجج واهية، سيما وأن بوتين يظهر نفسه نقيض المتوفى.

قد يفهم المرء حنق الروس تجاه رجلٍ قاد إصلاحات اقتصادية أنهكت البلاد والعباد، ثم انتهت بتجويع الشعب الروسي وفقدان الملايين منه أشغالهم، هو غيظ تجاه رجل قاد إصلاحات سياسية أضعفت الاتحاد السوفياتي، وأفقدته هيبته الداخلية والخارجية، ثم انتهت بتقطيع أوصاله إلى دول عديدة، أصبح عديد منها جزءا من المعسكر الغربي المعادي، مثل دول البلطيق، ناهيك عن اندثار حلف وارسو الذي كان يحيط موسكو بسياج الأمان، بانضمام أغلب دوله، أو التي كانت تدور في فلكه إلى حلف شمال الأطلسي الناتو عدو الأمس واليوم والغد.

كان غرض المعسكر الغربي من دعم غورباتشوف إنهاك الدب الروسي وإضعافه، ومن ثمّة التخلص من تهديدات ثاني قوة عسكرية في العالم

معتوه وخائن، وصفان يلتصقان بميخائيل غورباتشوف عند الشعب الروسي، حسب ما يرويه الكاتب والدبلوماسي الروسي السابق، فلاديمير فيدوروفسكي، الذي يعتقد أن رجل البيريسترويكا والغلاسنوست سلك طريق المخاطر لإصلاح النظام الشيوعي المتهاوي آنذاك، متجنّبا استعمال القوة وسفك الدماء في أحيانٍ كثيرة، لكنه قلّل من أهمية المطالب القومية التي ارتفعت أصواتها خلال حكمه، وظن أن في وسعه تغيير الإنسان الروسي بمحاربة المشروبات الكحولية، ثم لم ينته الروس عن شرب الخمور، بل استمرّوا في شرائها من السوق السوداء، وذهبت أرباحها خارج خزينة الدولة فزادت بؤسا. وزادت شعبية غورباتشوف انهيارا، حتى غدَا الشخصية الأكثر بغضا وكراهة عند مواطنيه، أي أسوأ من الدكتاتور الدموي ستالين.

لم يأت الوصفان المذكوران عبطا، ولو أنهما غير صحيحين في الواقع، لكن العبرة بالنتيجة والخلاصة بالمُحصِّلة، فالرجل، رغم ذكائه ودهائه (لو يكن كذلك لما وصل إلى أعلى منصب في النظام الشيوعي الذي حكم الاتحاد السوفياتي بالنار والحديد) خدعه الغرب، الذي أعطاه كل الضمانات والتطمينات بمساندته في مساره، والوقوف إلى جانبه، بيد أن غرض المعسكر الغربي كان إنهاك الدب الروسي وإضعافه، ومن ثمّة التخلص من تهديدات ثاني قوة عسكرية في العالم، إذ يُحكى أنه في قمة الدول الصناعية السبع الكبرى في لندن سنة 1991، ودُعي إليها الزعيم السوفياتي الذي قدم إليها مغتبطا مستبشرا، وبعد خروجه من لقاء جمعه بقادة الدول السبع، يطلب فيه المعونات الاقتصادية، استدار رئيس وزراء بريطانيا، جون ميجور، إلى رفاقه، وقال لهم "إذا حصلنا على ما نريد فليذهب بعدها إلى الجحيم".

يكره الروس غورباتشوف، لأنه إما عميلا أو غبيا، لم ينتبه ولم يفطن لِما يجري حوله

هذا ما وقع فعلا، فعوض الوقوف بجانب الزعيم السوفياتي الذي كان مخلصا في كلامه وتصوراته وطريق الإصلاح الذي رسمه، قام الغرب بتمويهات سياسية واقتصادية عديدة، منها البرنامج التسلحي المسمّى "حرب النجوم"، والذي ظهر فيما بعد أنه كان مجرد ألعوبة ضمن خطة ماكرة، غرضها استنزاف خزينة السوفيات في سباق تسلح لا قدرة لهم عليه. وكانت هذه الخدعة إحدى الوسائل التي استعملتها الإدارة الأميركية للقضاء على "إمبراطورية الشر" كما كان يسميها الرئيس ريغان، لكن هذا لا يكفي، فكان لا بد من القيام بخفض ثمن البترول بدعم من بعض الدول النفطية، إضافة إلى دعم المجاهدين الأفغان بالمال والعتاد، علاوة على الحلف المقدّس مع البابا يوحنا بولس الثاني، البولوني الأصل، من أجل زعزعة النظام الشيوعي في بولندا، ومساندة الحركات الاحتجاجية العمّالية التي قادها النقابي الذي أصبح رئيسا للبلاد فيما بعد، ليش فاليسا.

يكره الروس غورباتشوف، لأنه إما عميلا أو غبيا، لم ينتبه ولم يفطن لِما يجري حوله. تحرّك الجميع يمينا وشمالا، وهو ماض في خطته، مثل قطار يسير على سِكّته غير عابئ بالعواصف حوله، لم يحرّك ساكنا وهو يتفرّج على سقوط جدار برلين، وهي علامة فارقة وحدث تاريخي، خضع وسحب قواته من أفغانستان، ثم من ألمانيا ومن دول أوروبا الشرقية مقابل وعد شفهي من أميركا بعدم توسيع "الناتو". وفي مقابل هذا كله، لم يحصل على أي شيء! خُدع فانخدع، لأنه في الواقع لم يكن في مقدوره فعل أي شيء، لا لضعفه، ولكنه ورث إمبراطورية على وشك الانهيار الاقتصادي، حاول انتشالها من المستنقع، لكنه لم يفلح، رغم قيامه بما كان يعتقد أنها إصلاحات ضرورية ومستعجلة. .. أين يكمن الخطأ؟

أراد غورباتشوف تحرير السياسة، فإذا به في دوامة المؤامرات الداخلية والخارجية التي أخرجت القطار عن سكّته وأنهت حكمه

الإصلاحات التي كان من المفترض أن تبدأ بالجانب الاقتصادي على المنوال الصيني أراد لها غورباتشوف أن تمسّ كل جوانب الحياة العامة. انطلق في خطته، مستشرفا المستقبل بتفاؤل وأمان، سالكا طريق الإصلاح من دون تردد، فارتكب خطأ قاتلا، القيام بعمليتي إصلاح السياسة والاقتصاد في آن، من جهةٍ أراد تحرير الاقتصاد، فإذا به يُسلِّم مقاليد سلطة المال والأعمال لمجموعة الأوليغارك الذين زادوا الطين بلة، وأنهكوا عاتق المجتمع الروسي من حيث هم اغتنوا. ومن جهة أخرى، أراد تحرير السياسة، فإذا به في دوامة المؤامرات الداخلية والخارجية التي أخرجت القطار عن سكّته وأنهت حكمه.

على الرغم من هذا، وبعد سنين من مغادرته كرسي الحكم، يُقيّم الزعيم الراحل هذه الحقبة التاريخية فيقول: "أشعلنا المحرّكات من دون فرامل، وأتحمل كل المسؤولية فيما حدث، ولم يكن في وسعي القيام بما قمت به بشكل مختلف". بلى، كان يمكنه فعل ما فعل، لكن بشكل آخر، لولا أنه صَدّق من دون أن يتحقق من صِدْق الكلمات، وفي ذلك نصيحة وعبرة لآخرين.

باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط
مهندس معلوماتيات، باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية، نائب عمدة سابقا في الضاحية الباريسية.
عمر المرابط