فؤاد حميرة وكوميديا الاستبداد
لخّصَ الصحافي الصديق شعبان عبّود شخصيةَ الأديب والسيناريست السوري، فؤاد حميرة (1965- 14/6/2024)، بأن جسده كان يداوم مع زملائه في كلية الصحافة في جامعة دمشق، أما عقله فكان يحوم في دنيا المسرح والتلفزيون. وأنا، محسوبَكم، من معرفتي بفؤاد، أضيف أن السخط على الاستبداد سمةٌ أساسية في شخصيته، تجلّى هذا في أعماله التلفزيونية، وأخصّها "غزلان في غابة الذئاب" (2006)، المسلسل الذي جعل مشاهديه يحبسون أنفاسهم وهم يشاهدون العنف غير المحدود الذي كان أبناء المسؤولين في سورية يمارسونه على الشعب الأعزل، وبالأخص على النساء. وكذلك الحال في مسلسله "الحصرم الشامي" الذي تناول فيه فترة من أيام الحكم العثماني، وولاية أسعد باشا العظم، المقتبس من كتاب البديري الحلاق "أحداث دمشق اليومية".
شاهدتُ معظم أعمال الراحل فؤاد حميرة التلفزيونية، في حينها. وللأمانة، لم تكن الشجاعة في انتقاد المؤسّسات المخابراتية خاصة به، فقد ازدحم مسلسل "بقعة ضوء" الذي انطلق في سنة 2001، بإدارة المخرج الليث حجو، بلوحاتٍ بالغة الجرأة في نقد هذه المنظومة وشخصياتها، وكذلك أعمال الكاتب سامر رضوان. ولكنّ ما يسجّل لفؤاد، في اعتقادي، مقدرته على كتابة نص تلفزيوني شديد الإثارة، بحرفيّة عالية، ومقدرة على الغوص في أعماق الشخصيات التي يرصُدها، بالإضافة إلى التركيز على موضوع الفقر، وكيف تتعرّض الأُسَر الفقيرة للابتزاز. أما لقائي الشخصي معه، فيرجع إلى 2017، حينما زارنا في "تلفزيون سوريا" في إسطنبول، والتقيتُه في مكتب مدير التلفزيون أنس أزرق، ودار الحديث في إمكانية الاستفادة منه بأية فكرة يراها مناسبة للتلفزيون الذي كان، وقتها، في طوْر التأسيس... وقد فوجئت، يومئذ، بأنه رجلٌ قليل الكلام، فيا تُرى، هذا طبع دائم فيه، أم أنه كان يعاني، في تلك الآونة، من ملل، أو إحساسٍ باللاجدوى، أو الإحباط؟ وبعد فترة، دعانا فؤاد إلى افتتاح تيار سياسي يحمل اسم "الغد"، في أحد فنادق إسطنبول، وأذكر أننا سهرنا معاً، بعد الافتتاح، بصحبة أصدقاء، كان منهم الراحل عبد القادر عبدللي، وعرفتُ، فيما بعد، أنه سافر إلى مصر واستقرّ فيها.
كنتُ، طوال المدّة اللاحقة، أتابع ما يكتبه فؤاد على "فيسبوك"، وقد أدهشني عندما نشر، على صفحته، حكاية واقعية تلخص طبيعة استبداد النظام السوري: أنَّ عناصر الأمن الذين اعتقلوه من بيته في اللاذقية (2013)، كانوا يصحبونه إلى سيارتهم، ولا يتوقفون، في الأثناء، عن ضربه، ورفسه، والسباب على أهله، فلمّا سألهم عن السبب، قال أحدهم: هاي مو شغلتك! وأذكر أن الصديق فتحي بيوض أرسل إليّ، ذات مرّة، مسرحياتٍ قصيرة كتبها فؤاد حميرة لموقع "زمان الوصل"، وسألني الرأي فيها، فأجبتُه، بعدما قرأتها، بأن فؤاد، على ما يبدو، تعمّد كتابة الأفكار الرئيسية لكل لوحة، من دون التفاصيل، وطالما أنه سيخرجها بنفسه، فلا بد أن يملأ فراغاتها بالتفاصيل التي يراها مناسبة. وبالفعل، شاهدتُ، بعد اكتمال العمل، لوحات مسرحية جيّدة بالقياس إلى تكلفتها المحدودة.
اتصلت بفؤاد، عبر الماسنجر، مرّتين، أو ثلاثاً، ولا سيما بعدما قدم تمثيلية كوميدية (مونودراما)، على فيديو فيسبوك، يتقمّص فيها شخصية "ضابط صفّ" في الجيش، يستفسر من معلّمه، عبر الهاتف، عن ثلاجة قام وجنودَه بسرقتها (تعفيشها). وقد استند فيها إلى لعبة ذكية، أن المشاهد لا يعرف ماذا يقول الضابط الموجود على الطرف الآخر من المكالمة، فيذهب ذهنُه إلى شيء آخر غير الثلاجة. وبهذا يبرُز المؤثر الكوميدي في الخاتمة كما لو أنه الصدمة. وبعد هذا الاتصال، أرسل إليَّ مخطوط رواية له، عنوانها "رصاصة"، كان قد أرسلها إلى أصدقاء له، بقصد الاستفادة من ملاحظاتهم قبل أن يدفع بها إلى المطبعة. وقد أعجبتني الرواية، القصيرة، ويبدو أنه أعاد كتابتها، وأصدرها عن إحدى دور النشر في الإسكندرية.