فرنسا وتركيا .. لعبة شد حبل لا تنتهي

28 مارس 2021
+ الخط -

لعبة شد الحبل بين فرنسا وتركيا مستمرة، ومن جديدها تصريح الرئيس الفرنسي، ماكرون، على القناة الخامسة الفرنسية يوم الثلاثاء 23 آذار/ مارس، والذي حذّر فيه من محاولات أنقرة التدخل في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة سنة 2022، وهو اتهام، على الرغم من خطورته، يبقى أدنى تهجما مما يقوله الإعلام الفرنسي الذي يعرب عن قلقه الشديد من محاولات الرئيس التركي، أردوغان، إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وتزعم العالم الإسلامي في مواجهة الغرب، ما يعتبر تهديدا كبيرا، وجب التصدّي له وإيقافه عند حدّه.

"أردوغان.. السلطان الذي يتحدّى أوروبا" هو اسم البرنامج الذي خصّصته القناة الخامسة العمومية الفرنسية للحديث عن الرئيس التركي، والذي في معرضه تحدث ماكرون عن علاقة بلاده بتركيا وبرئيسها، متهما الأخير بمحاولة التسلّل (entrisme) إلى أوروبا، مشيرا إلى ميول تركيا إلى التدخل في الشؤون أوروبا، وزعزعة استقرارها، بدعم ما سماه "الإسلام السياسي" وتمرير مغالطات جمّة أدّت إلى تأجيج كراهية فرنسا في العالم الإسلامي، زاعما أنه لم يدعم قط الرسومات المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه دافع فقط عن حرية التعبير. وكانت حرية التعبير هذه القشة التي قصمت ظهر البعير، ووسعت هوة الخلاف بين تركيا وفرنسا؛ ففي وقت يتبجح الرئيس ماكرون بالدفاع عنها، يقيدها عند المسلمين بسن قوانين، وبفرض مواثيق تحدّ من حريتهم الدينية، ولا تراعي لا خصوصيتهم الدينية، ولا تقاليدهم الموروثة، ولا حمولتهم الثقافية التي توارثوها أبا عن جد. وفي الوقت نفسه الذي ترفض فرنسا قطعة قماش فوق الرأس، يُسقط المدعي العام في باريس، وبحجة احترام حرية التعبير "الجسدي"، دعوى تسعة نواب برلمانيين ضد الممثلة الفرنسية، كورين ماسبيرو، التي فضحت جسدها المترهل، وأظهرت عورتها أمام المشاهدين، من دون حشمة أو حياء، في حفل توزيع جوائز سيزار في باريس يوم 15 مارس/ آذار الجاري.

لم يَرُق للرئيس ماكرون دفاع الرئيس أردوغان عن مسلمي فرنسا وعن مقدساتهم، ولم تعجبه تدخلاته ووقوفه ضد مخطّطات فرنسا في أكثر من بلد، ولم يستسغ سرعة هزيمة أرمينيا بسبب التدخل التركي. وبما أن نقاط الخلاف كثيرة ومتعددة، يظهر توجس فرنسا الكبير من تركيا، ومن عودة قوتها، فإن الرئيس الفرنسي لم يأل جهدا خلال انعقاد مؤتمر الاتحاد الأوروبي، يومي 25 و26 مارس/ آذار الجاري، والذي قدّم خلاله وزير الخارجية الفرنسي تقريرا عن تطور علاقة الاتحاد وتركيا، لإيجاد تكتل أوروبي عريض مناهض للطموحات التركية المتشعبة، ولاتخاذ موقف صلب وموحد، والاتفاق على إجراءات سياسية واقتصادية. وذلك كله على الرغم من تصريحات السفير التركي في فرنسا، والتي تميل إلى التهدئة، وتهدف إلى تحسين العلاقات مع فرنسا وأوروبا، في مسعى إلى إغلاق جبهات "تناحرية" أضرّت وتضر بمصالح أنقرة الاستراتيجية، وتفاديا لأي عزلة قد تفرضها القوى الغربية، سيما مع تغير سياسة أميركا الخارجية، فالرئيس الأميركي، بايدن، قد لا يسمح لتركيا بما سمح به لها سلفه الرئيس ترامب وسياسته القائمة على مبدأ "أميركا أولا وعدم التدخل الخارجي".

تركيا التي تعرّض اقتصادها لهزات عنيفة، ومن ذلك تهاوي عملتها أخيرا، يرغب خصومها في تركيعها، بإيجاد أزمة اقتصادية واجتماعية داخلية

تركيا التي تعرّض اقتصادها لهزات عنيفة، ومن ذلك تهاوي عملتها أخيرا، يرغب خصومها في تركيعها، بإيجاد أزمة اقتصادية واجتماعية داخلية، لعلّها تعجل بسقوط "السلطان" وإرجاع تركيا إلى سابق عهد كانت شرطي حراسةٍ يحرس أبواب أوروبا ويستنجد بها لمساعدته، لكنها حققت، في العقدين الأخيرين، من الإنجازات الاقتصادية والسياسية ما جعلها محل تواطؤ دولي، لكبح انطلاقتها التي لا تُرضي منافسيها، وللحيلولة دون بلوغها مرتبةً تقض مضجع مناوئيها.

بيد أن تركيا تمتلك في دول الاتحاد الأوروبي يدا طولى، عبر جالية قوية ومنظمة، ساهمت في التطور العلمي والاقتصادي لوطنها الأم، وحققت نجاحاتٍ امتدت من كرة القدم إلى البحث العلمي مرورا بالصناعة والتجارة، وما مخترعا اللقاح الألماني ضد كورونا إلا نموذج نجاح يبرز مدى التوغل التركي وفاعليته في أوساط المجتمعات الأوروبية، إن بطريقة فردية أو بطريقة منظمة، من خلال جمعيات عديدة ذات صبغة دينية أو ثقافية أو رياضية أو غيرها، من دون الحديث عن مجموعة "الذئاب الرمادية" التي حلتها فرنسا في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

وبالفعل، تحرص الجمعيات التركية على المساهمة والمشاركة في أوساط المجتمع المدني، في المجال السياسي بالتأثير المباشر أو غير المباشر، وفي المجال الديني والثقافي من خلال سهرها على مئات من المراكز الإسلامية. واستطاعت الوصول إلى رئاسة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، والتأثير بقوة داخله. وتنتظم الجالية التركية في فرنسا في المجال الديني، تحت لواء منظمتي "ملّي غوروش" التي أسسها نجم الدين أربكان في ألمانيا، وتحت مظلة "لجنة تنسيق المسلمين الأتراك في فرنسا" القريبة من حزب العدالة والتنمية، التركي. وقد رفضت المنظمتان التوقيع على "ميثاق المبادئ للإسلام في فرنسا"، في تحدٍّ صارخ للسلطات الفرنسية، وفي رفض تام للتوجهات السلطوية للحكومة الفرنسية الحالية، ما حدا بهذه إلى القيام بشيطنتهما واتهامهما بعدم احترام مبادئ الجمهورية الفرنسية، وتقديم المصالح الخارجية على المصالح الوطنية.

لم يَرُق لماكرون دفاع أردوغان عن مسلمي فرنسا ومقدساتهم، ووقوفه ضد مخطّطات فرنسا في أكثر من بلد

بدأت المقالة بالرئيس ماكرون، وتختتم بوزير داخليته دارمنان الذي احتج بقوة على تصويت المجلس البلدي لمدينة ستراسبورغ يوم الاثنين (22 مارس) على منحة قدرها 2.5 مليون يورو لبناء مسجد أيوب سلطان الذي تسهر على بنائه جمعية تركية، متأسفا على عدم دخول "قانون محاربة الانفصالية الإسلاموية" حيز التنفيذ بعد. وأمر سلطات المنطقة بفتح قضية أمام القضاء الإداري لوقف تنفيذ قرار البلدية، بدعوى انضواء الجمعية تحت منظمة لم توقّع على ميثاق المبادئ، وتدافع عن "الإسلام السياسي" حسب قوله، ضاربا عرض الحائط بالقانون المطبق في هذه الجهة، ويسمح بتمويل الجمعيات الدينية عكس باقي التراب الفرنسي، كونها كانت خاضعة لألمانيا سنة 1905 إبّان سن قانون العلمانية الفرنسي.

يأبى الوزير أن تعامَل المساجد على قدم المساواة قانونيا كما تعامل الكنائس التي تحظى بنصيب الأسد من المنح المقدّمة. ويرفض هذه المنحة اليتيمة لاستكمال بناء مركز إسلامي توقف بناؤه من قلة المال وضعف الحال، مع منع الإعانات الخارجية، في مشهد يلخص علمانية فرنسا التي تكيل بمكيالين، لكنه يوضح صلب أزمة العلاقة بين غريمين تاريخيين، فلا تركيا نسيت معاهدة سيفر سنة 1920 التي فككت الإمبراطورية العثمانية، ولا فرنسا يناسبها شفاء رجل أوروبا المريض وقوته.

باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط
مهندس معلوماتيات، باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية، نائب عمدة سابقا في الضاحية الباريسية.
عمر المرابط