فيل في وزارة الخارجية
بعض النكات مركبة وعميقة وثقيلة وطويلة التيلة، يا طويل العمر، ويمكن روايتها مرة ثانية، منها طرفة قديمة جدًا، علاها الصدأ وأقوت وطال عليها سالف الأمد، وتقول إنّ رجلًا كان قد كفأ الكأس، مع أنه ليس فيها ثفل قهوة، حتى يقرأ فيه الطالع، فقلبها سنةٌ نبويةٌ، فقال الضيف متعجّبًا: الكؤوس عندكم مسدودة من أعلاها، فعدّل الرجل الكأس، ليبيّن له الآيات لعله يهتدي، فقال الضيف مصعوقاً: ومنقوبة أيضًا من أسفلها.
ليس أخزى من رواية نكتةٍ قديمةٍ وأذلّ. رويتُ مرّة نكتة قديمة لرجلين قارحين، فنظرا إلى بعضهما ثم سدّدا بصرهما إليَّ، ولو كانا مسلحين لأحلّا سفكَ دمي في الأشهر الحرم. ومن هذه النكات القديمة أنَّ رجلًا أُسعف إلى الطبيب لأنه بلع فيلًا، فسعى الطبيب إلى إقناعه بالحكمة والموعظة الحسنة أنَّ الفيل أكبر من أن يُبلع، لكن المريض أقنع الطبيب بأنَّ الأوطان تُبلع، فكيف لا يُبلع الفيل، فعجز الطبيب بالطرق الديبلوماسية عن إقناعه، فعمد إلى إحضار فيلٍ إلى العيادة، ولا أعرف كيف أحضره، يجب أن نصدّق النكتة، مع أن عنصر الإقناع ضعيف فيها، ولا تشترط النكتة إقناعًا، فغايتها الإضحاك، فإن أضحكت فتلك آيتها وبرهانها. وليس في البلاد فيلة، الفيل الذي نعرف هو فيل أبرهة الحبشي وفيلة السيرك. وهناك وزيرا خارجية عربيان، واحد ميت والآخر حيٌّ يرتزق من فصيلة الفيلة. قال الطبيب، بعد أن صحا مريضنا من البنج: لقد أخرجت الفيل من بطنك؟ فنظر الرجل إلى الفيل، وجعل كيد الطبيب في تضليل، وقال: الفيل الذي بلعته كان أبيض اللون.. مع أنَّ للفيلة بعامة لونًا واحدًا، فكل الفيلة من حزب الرئيس على لون وزير الخارجية.
وبما أنَّ الفيل بالفيل يذكِّر، فقد تذكّرنا أنَّ الحكماء يقولون إنهم يروّضون الفيل الأسير على الخنوع والذل والوطنية بأنهم يربطون قدمه بسلسلةٍ فيها كرةٌ ثقيلة، ثم يحرّرونها بعد أيام، حرصًا على السلسلة المسكينة، فهم يشفقون عليها أن تظلّ مقيدة بقدم الفيل، فيمكث الفيل عاكفًا في مكانه لا يبرحه، لأنه وقر في يقينه أنه ما يزال مقيدًا، فرحم الله الطفلة نهلة العثمان التي أترعت قلوبنا ألمًا وأسى.
أمس طلبتْ منّا الحكومة الألمانية أن نقوم بواجبنا الانتخابي في ألمانيا، اللاجئون لهم حق الانتخاب والتصويت! ولم يكن ذلك الحق في بلادي للمواطنين، فقصدتُ المركز الانتخابي وانتخبت، وكتبت بجانب أسماء المرشحين: نعم وألف نعم، كما كنت أفعل في سورية، فالعود لا يزال في دُبر الزبيبة.
ومن النكات القديمة اليابسة أنَّ محمد كريشان كان يقصد تونس كل صيف لزيارة وطنه وأهله، فرآه تونسيٌ يتابع الأخبار، فهتف: والله أنت تشبه محمد كريشان الخالق الناطق... فقال محمد كريشان الذي أراد أن يهنأ بثمرة شهرته من شجرتها الوارفة من أن ينزعها منه شبيهٌ له، وكان بارعًا في فنِّ التفاوض والحوار، اكتسب البراعة من عَرَق برامجه الحوارية: ولم لا أكون أنا محمد كريشان. فقال الرجل بعد سماع صوته الشحروري: سبحان الله حتى صوتك زي صوته، من أين أنت؟ فقال كريشان يساعده على ربح الجائزة، ويكاد يفضح نفسه ويضع اللقمة في فمه: من صفاقس. فقال الرجل: سبحان الله هو أيضًا من صفاقس، ما اسم حضرتك؟ قال محمد كريشان، وقد آيس من الرجل فكشف لثامه: اسمي محمد كريشان. قال الرجل: لا إله الاله، الله أكبر، هو أيضًا من العائلة نفسها... وبقي الرجل على كفره!
كانت واقعة شبيهة قد وقعت لروان أتكينسون (المستر بين)، أنَّ رجلًا رآه، فقال أنت تشبه المستر بين. قال روان أتكينسون: أنا المستر بين بشحمه ولحمه... قال: اطلع من الأبواب هذه، لن تخدعني.
تقول طرفة يابسة، نُقعت في الماء أيضًا، إنَّ معتقلين خرجوا في آخر عهد صدام حسين بعد قصف أميركي ناعم، وهم يهتفون: يسقط أحمد الحسن البكر، مع أنَّ البكر كان مسكينًا وأسيرًا، وثاكلًا بقتل ابنه في حادث سير مشبوه، وكان صدّام هو الذي يأكل الفيلة البيضاء في عهده. وقتل معمر القذافي، وهو يقول لمعتقليه: أنا أمير المؤمنين، وعندي الملايين... ولم يبلغنا أنَّ أحدًا رأى وجه القذافي على القمر، فنحن لا ننجو من رؤية وجه الرئيس حتى بعد موته، وجهه في كل مكان، الحيطان، الأوراق النقدية، الجلاء المدرسي، حتى إنَّ حبيبتي صارت تشبّه الرئيس بعد سنة من الزواج، وصار واجبًا قلب النظام، وتأليف رئاسة رباعية فيدرالية تعدّدية.
قصر الكلام: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.