في الطريق إلى المستشفى
قال سائق التاكسي الصفراء، وهو يرتشف قهوته في كأس ورقية ناوله إياها عامل مقهى رصيفي: "والله يختي الحالة صعبة جماعة الأوبر ما خلولنا رزق". لم ينطق بذلك في إجابة عن أي سؤال طرحتُه عليه. بقيت واجمة صامتة منذ صعودي إلى السيارة، ربما أومأتُ برأسي شاكرة، عندما عرض علي من باب المجاملة كأس قهوة حين اشتراها لنفسه. كنت شاردة أفكر في صديقتي المقرّبة ذات الجمال والرشاقة، المعروفة بمقتها الأطباء والمستشفيات، وباعتدادها بجسدها المثالي الخالي من الأمراض وبصحتها الموفورة، رغم تقدّمها في العمر، وبمواظبتها على ممارسة الرياضة، وهي الحريصة على تناول الأكل الصحّي، والفخورة بأنها لم تحتج يوما لتناول أي دواء، حتى لو مسكّن صداع، كونها تؤمن بأن الشفاء من الأمراض يكمن في الطبيعة الكفيلة بعلاج أمراضنا مهما كانت مستعصية، وغالبا ما تقرع الصديقات المدخّنات المتقاعسات عن ممارسة الرياضة مثلما تفعل يوميا، وتحذّرهن من عواقب هذا السلوكيات المدمّرة والخطيرة.
كثيرا ما اتهمتُها بالمبالغة في التركيز على نفسها، وأحيانا كنتُ أجد في ذلك طيفا من الأنانية، ومصادرةً لحق الآخرين في عدم الاكتراث، لتجد نفسها، بين ليلة وضحاها، في مواجهة أمام موقفٍ صعب لا يُحتمل، إذ وقعت وحيدتها الثلاثينية فريسة المرض، وبعد إجراء فحوصات عديدة، قرّر الأطباء أن الحالة في غاية الخطورة، وأن كليتيها على وشك التوقف نهائيا، وأن الأمل الوحيد لنجاتها هو الحصول على كلية متبرّع مطابقة. لم تتردد الصديقة، ولم تفكّر مرّتين، قبل أن تقول للطبيب المشرف على الحالة إنها جاهزة لتقديم كليتها المطابقة، بل وروحها إنقاذا لابنتها من مصير قاتم يتربص بها.
قال السائق الثرثار "حال البلد واقف، الناس تغيرت، والغلا ذبحنا. السيارة كل يوم بتخرب وقطع الغيار غالية، والشغلة مش جايبه همّها". فكّرت أن أصرخ في وجهه أو أطلب منه التوقّف حالا، كي أترجّل من السيارة وأتابع طريقي سيرا على الأقدام، غير أني كنت متعبة، ولم أتخيّل نفسي قادرة على ذلك. سيطرت عليّ حالة من الحزن، وأنا أتخيّل صديقتي المعادية للطب، وهي تحت رحمة الجرّاحين ومشارطهم التي ستعمل على جسدها تمزيقا. فكّرت في قسوة الحياة التي تضعنا أمام اختباراتٍ عصيبة، وتوقظنا من أوهام القوة والاكتمال، حين نظنّ، في لحظات قوتنا، أننا نملك السيطرة على أي تفصيل من حياتنا، لنكتشف، في موقفٍ كهذا، مقدار الهشاشة وقلة الحيلة والضعف فينا، ما يجعلنا في حالة عجز مطلقة أمام مفاجآت الحياة غير السارّة.
أدار السائق مفتاح الراديو، فانطلق صوت أم كلثوم وهي تغنّي "كله في حبك يهون"، تيقّنت أن اليأس قد أصابه من إمكانية تفاعلى مع همومه المتعلقة بأسعار قطع غيار السيارات. فكّرتُ في الحب، تلك الطاقة الهائلة التي تكتنف أرواحنا، وتدفعنا إلى فعل المستحيل من أجل من نحبّ، نتجاوز بكل بساطة جراحنا، ندوس على رغباتنا الشخصية، نضحّي من أجلهم بالغالي الذي يصير رخيصا فداء لهم، نتحمّل من أجلهم الأذى، ونصبر ونتعب من أجل راحتهم، ونظل نعطي بلا حساب أو توقّف.
وصلت إلى المستشفى، حيث ترقد صديقتي، بعد أن خضعت للعملية. نقدتُ السائق أجرته، وقد أحسّ بارتياح لمغادرتي، لأني زبونة مملّة. شعرتُ بالتردّد، وأنا أوشك على الوصول إلى غرفتها. تملكتني الخشية من مواجهة لحظة انكسارها، وقد نقص جسدها المثالي كثيرا، غير أني وجدتُها ضاحكة مشرقة، رغم أثر الجرح الذي ما زال طريا، وقد اكتملت روحها كليا بالحبّ الذي من أجله يهون كل شي.