في المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان
أعلنت جماعة العدل والإحسان (المغربية)، في يوم 6 فبراير/ شباط الحالي، مشروعها السياسي. يتعلق الأمر بإصدارها وثيقة سياسية في حدود مائتي صفحة، أشرفت على إنجازها الدائرة السياسية للجماعة. وإذا كنّا نعرف طابع الحضور السياسي للجماعة، المتمثل في خيار المعارضة، حيث حرصت على نقد النظام السياسي، وحدّدت رسالة الإسلام أو الطوفان (1974)، التي حرّرها شيخ الجماعة ومرشدها عبد السلام ياسين (1928 - 2012)، الأفق السياسي لخياراتها السياسية، فإن السؤال سيصير عن أسباب إعلان هذه الوثيقة اليوم ومبرّراته، بعد أربعة عقود من العمل السياسي داخل جماعة تشتغل بآليات عمل الزوايا، وتنظر إلى شيخها بأعين المريدين. ولماذا جرى إعلان المشروع السياسي للجماعة بعد مرور أزيد من عقد على وفاة مرشدها؟
تُطرح هذه الأسئلة لأن الجماعة انخرطت منذ زمان في التعبئة الخُلقية والعمل الديني، كما انخرط أعضاؤها في كثير من مؤسّسات العمل المدني والسياسي والنقابي والحقوقي، الأمر الذي مكّنها من أشكال من الحضور داخل النسق السياسي وبمحاذاته... وقد ظلت تحسب نفسها مجرّد جماعة أخوية مَعْنِية بالدعوة إلى أخلاقٍ معينة، وتمارس، في الآن نفسه، النضال الحقوقي والسياسي بالاعتماد على جملة من المبادئ التي ترى أن النسق السياسي المغربي السائد لا يسمح اليوم بها. صحيحٌ أنه سبق للجماعة أن أصدرت مجموعة من الوثائق الداخلية، من قبيل وثيقة "حلف الإخاء" (2006)، ووثيقة "جميعاً من أجل الخلاص" (2007)، ونعثر في الوثيقتين على كثير من المبادئ المتضمّنة في مشروعها السياسي المعلن اليوم. ونتصوّر أن الروح التي أعدّت بها الوثيقة الجديدة تكشف، بهندستها الجديدة وطريقة تحريرها، أننا أمام مشروع جديد، فماذا تغيّر اليوم في المشهد السياسي المغربي، وسمح للجماعة بإعلان مشروعها السياسي؟
المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان يروم بلغتها بناء الإنسان، وتشييد مجتمع العمران الأخوي، وترسيخ القيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة
قبل الإجابة، نشير إلى أن محتويات الوثيقة مرتّبة ومُركَّبة بعناية، وقد حرص محرّروها على استعمال لغة واضحة، بهدف توسيع (وتسهيل) دوائر التواصل الداخلي بين أعضاء الجماعة والمنظمّات والأحزاب ومختلف الفاعلين في المجال السياسي. تتجنّب الوثيقة عرض التفاصيل المتعلقة بمبادئها ومرجعيتها النظرية العامة، الخلافة والنموذج العُمَري... ومقابل ذلك، أَوْلَت عناية خاصّة بالإجراءات والتفاصيل المرتبطة بمجال الممارسة السياسية، إلا أن من يقرأ "بياضات" الوثيقة في أثناء قراءته أسطرها ومفرداتها، يشعر بأن الدائرة السياسية في الجماعة تُرَكِّب الخطوات الأولى في باب تجاوز دائرتها الدعوية، فقد جاءت لغة المشروع في الوثيقة حاملة كثيراً من مفردات العمل السياسي والحقوقي التي استأنس بها الملاحظون المهتمّون، بصور وأشكال حضور الجماعة في المشهد السياسي المغربي، وخصوصاً في أنماط العلاقة التي أقامتها مع بعض القوى اليسارية. فهل يمكن أن نفهم من هذا أن الجماعة تُعِدُّ العُدّة لمغادرة الحجاب الدعوي، لِتَلِجَ بواسطة الخطوة التي أقدمت عليها أبواب العمل الحزبي داخل النسق السياسي المغربي؟
نجد في وثيقة المشروع السياسي للجماعة مجموعة من المبادئ الموجّهة لنوعية الحضور السياسي الذي رسمته لنفسها، فهي تعمل من أجل مواجهة الجمود والانحباس الحاصلين في المجال السياسي المغربي، ومواجهة تَغَوُّل السلطة وإفلاس السياسات العمومية، وتطالب بالقطع مع الاستبداد وبناء دولة مدنية. كما تطالب بالتوزيع العادل للثروات من أجل تحقيق العدل والمساواة، وتتوخّى من العمل السياسي إقامة مجتمع الحرية والعدالة والكرامة. ويتّضح، من المبادئ الواردة في مقدمة الوثيقة، أن المشروع السياسي للجماعة يروم بلغتها بناء الإنسان، وتشييد مجتمع العمران الأخوي، وترسيخ القيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة. والهدف من وراء المشروع يتمثل، بلغة الوثيقة، في بناء نظام شورى، تحقيق العدل وصون الكرامة، وتحقيق الحرية وترسيخ الوحدة والتعاون.
تتّجه "العدل والإحسان" بإعلانها وثيقة كاشفة لجوانب من مشروعها السياسي إلى نوع من التفاعل مع متغيرات المشهد السياسي المغربي
تعيدنا المفردات المستخدمة في المبادئ والأهداف إلى أدبيات الدائرة الدعوية، إنها تستعيد جوانب من أدبيات المرجعية الإسلامية المألوفة في خطابات الإسلام السياسي، بجميع فصائله وتياراته، الأمر الذي يبني إزدواجيةً واضحة في الخطاب، وفي المشروع السياسي الذي تتّجه الجماعة لإعلانه. ويدفعنا إلى التساؤل عن مبرّرات زمن الإعلان، ومبرّرات خطابٍ لا يملك القدرة على تجاوز الأدبيات التوفيقية المتداولة، في أغلب تيارات الإسلام السياسي. نقول هذا، لأننا نعرف أن الجماعة انخرطت، منذ أربعة عقود، في العمل السياسي المعارض، وأنها صنعت لنوعية حضورها، بوصفها قوةً سياسية معارضة، مجموعة من السمات الخاصة، وهي تملك كفاءات في التعبئة والتنظيم، وفي المشاركة في المعارك الكبرى التي عرفها المجتمع المغربي، فضلاً عن حرص المنتمين إليها على المبادرة والفعل والتواصل مع بعض التيارات اليسارية والقومية في الشارع المغربي، وداخل ساحات الوسط الطلابي في الجامعات المغربية.
تتجه الجماعة بإعلانها وثيقة كاشفة لجوانب من مشروعها السياسي إلى نوع من التفاعل مع متغيرات المشهد السياسي المغربي، إنها تتّجه إلى تجاوز الأعطاب البنيوية التي لحقت حزب العدالة والتنمية ولحقت خطاب الإسلام السياسي، بعد كل صوَر التراجع التي مُنِي بها هذا الخطاب في كل من تونس والمغرب ومصر. وهي تتّجه، أيضاً، إلى إبراز أن أحزاب الإدارة والنظام لا تعتبر الحل المناسب لمعضلات العمل السياسي والحزبي، في البلدان التي اختارت طريق الإصلاح الديمقراطي، وما حصل أخيراً لبعض قيادات حزب الأصالة والمعاصرة وافراده يُعَدّ عنواناً لجوانب من مهازل العمل الحزبي المطبوخ والمرتّب بسرعة خارقة، لكن ماذا ستقدّم الجماعة للمشهد السياسي المغربي؟
لا يتجاوز العنوان الأكبر لحضورها المعلن في الوثيقة بعض أدبيات اليسار المغربي، المعروفة منذ ستينيات القرن الماضي، ولا يتجاوز أدبيات اليسار الجديد، وقد تخلّت أغلب تياراته عن مواقفها التاريخية، وانخرطت في بناء مساراتٍ جديدةٍ في دوائر العهد الجديد.. تبدأ الوثيقة بإعلان رغبة الجماعة في بناء دولة العدل والكرامة والحرية، وإحداث قطيعة مع الاستبداد. وهي لا تتردّد في الحديث عن بناء دولة عصرية، منضبطة للتعاقد الدستوري، وتذكّرنا هذه المفردات ببعض أدبيات حزب النهضة في تونس، كما تذكّرنا ببعض أشكال القول في بعض خطابات "العدالة والتنمية"، إلا أن مواقف الحزبين المذكورين في معترك الصراع السياسي، لم تتمكّن من التخلص من روح وأخلاق الدوائر الدعوية في الحزبين. فهل تستطيع جماعة العدل والإحسان التخلص من أخلاق الجماعة وروح رسالة "الإسلام أو الطوفان" التي وُجّهت إلى الملك الحسن الثاني في 1974 و"مذكّرة إلى من يهمّه الأمر" التي وُجِّهت سنة 2003 إلى الملك محمد السادس.