في تذكّر ميشيل عفلق
في مثل هذه الأيام، قبل قرن وعقد، ولد ميشيل عفلق، المفكّر الحالم الذي صنع حزباً على مقاس عصره، وعندما دار الزمان صنع أتباعه من حزبه أحزاباً على مقاسهم، وأفقدوه براءته الأولى، وها هم يختصمون من جديد، ويتناوشون بينهم ما اعتبروه سؤال المرحلة: من له الحق في أن يقود الحزب؟ ونظنّهم لم يقرأوا ما يحيط بأمتهم التي نظر إليها المؤسّس على أنها "أمة واحدة"، وهي توشك اليوم أن تتحوّل إلى "أمم"، بعدما تراجع المشروع القومي الذي كان البعثيون من بعض بناته.
ونتذكّر كيف صنع عفلق مشروعه، وكيف قبض على حلمه ليصنع منه حزباً، وقد لازم في بداياته أبا العلاء المعرّي، يرى في الحياة رأيه، ويشكو منها شكاته: "غدا شكّ المعرّي ذريعة لي كي أهرب من التعمق والجهد، وأكتفي بشكٍّ سطحي أقذف به العالم"، وما تلبث مصادفة عابرة أن تلقي به في قلب باريس، وهناك تعرف إلى "ساحر جديد"، كما وصفه، هو الروائي أندريه جيد الذي وجد فيه صوتاً سحرياً يحمل الحماس واليقين، دفعه إلى هجر "تعقل (المعرّي) البارد وشكه السقيم"، وجعله يستعيد دائماً قوله: "يكفيني أن أردّد أن اثنين مع اثنين لا تزال تساوي أربعة حتى يمتلئ قلبي غبطة.."، ومن أندريه جيد إلى فردريك نيتشه الذي يلتقط عفلق منه صرخته "عش في خطر"، ويتساءل: "أي خطر أكبر من خطر الفكر؟".
توشك الأمة العربية اليوم أن تتحوّل إلى "أمم"، بعدما تراجع المشروع القومي الذي كان البعثيون من بعض بناته.
وكما أحرق جيد كل الكتب التي قرأها فعل عفلق مثله، وسعى إلى ما هو فردي فيه حيث "الإنسانية الكاملة هي في أن يتخصّص فيها كل فرد بما لا يقدر أن يقوم به سواه"، وسرعان ما أخذه الروائي مارسيل بروست في بحثه عن الزمن المفقود، وإيمانه "أن كل حياة فيها سر مجهول، وهي تستهوينا أن نهتك سرّها ونعرّيها من جمالها". وفي هذه العبارة يقول عفلق إنه وجد "حقيقة نفسه المرّة"، وقد أعطته هذه القراءات الشرارت الأولى التي انطلق منها ليؤسّس لأفكاره التي لم تكن قد اكتملت بعد.
في منتصف عقد الثلاثينيات، تعرف على "عصبة الطليعة" التي ضمت شيوعيين ويساريين، وكانت البذرة الأولى لتأسيس الحزب الشيوعي السوري - اللبناني، ووجد فرصته في الكتابة في مجلتها "الدهور" التي نشر في أحد أعدادها الأولى قصيدةً قد تكون من أولى قصائد "الشعر الحر"، ضمّنها أسئلته الفلسفية التي كان يجاهد للوصول إلى أجوبة لها: "يا صاح، قل لنا، قبل أن نرفع الشراع، هل لك متاع؟ لأن مركبنا صغير ليس يحمل الأشياء/ لي فوق جسمي رداء". "قل لنا يا صاح، قبل أن تزمع الرحيل، هل لك أهل أم قريب؟ لأن مركبنا غريب، لا يقبل غير الأفراد/ بين جنبي فؤاد.." إلى آخر القصيدة الوحيدة التي نشرها في حينه، وجرّب بعدها كتابة القصة، وفي إحدى قصصه وضع أسئلته في رأس بطلها، سعيد أفندي، الحائر الذي يستأنس بالظلام ويميل إلى الوحدة، و"لو استطاع لشقّ لنفسه طريقاً تحت الأرض أو فوق الهواء من شدّة رغبته في العزلة وميله إلى الانفراد"، وقد جعلته أسئلة الحياة والموت والناس يفكّر: كيف يهرب من فكره؟
انهار عفلق عند اعتقاله إثر انقلاب حسني الزعيم نهاية الأربعينيات، وكتب من السجن رسالة تذلل وخضوع، أعلن فيها ندمه على موقفه من الانقلاب
بعدها انسحب من "عصبة الطليعة" على خلفية عدم توافقه مع طروحاتها، وأسّس مع رفيقه صلاح البيطار "حركة الإحياء العربي" التي ستصبح فيما بعد النواة لحزب البعث. وهنا هجر الأدب، ودخل معمعان السياسة المباشرة، بما تنطوي عليه من مساوماتٍ وتسوياتٍ لم يروّض نفسه عليها، وقد تعرّض لاختباراتٍ صعبة، جهد نفسه لمواجهتها، لكنه انهار عند اعتقاله إثر انقلاب حسني الزعيم نهاية الأربعينيات، وكتب من السجن رسالة تذلّل وخضوع، أعلن فيها ندمه على موقفه من الانقلاب، وخاطب فيها الزعيم بقوله: "أنتم اليوم بمكانة الأب من أبنائه، وإذا شئتم سنكون في عداد الجنود البنائين، وإذا رغبتم أن نلزم الحياد والصمت، فنحن مستعدّون لذلك"، وعدت تلك الرسالة من خصومه بمثابة خطيئة كبرى.
وجاءت خطيئته الأخرى خلال إقامته في بغداد، بعد وصول "البعث" إلى السلطة، وقبوله بموقع الأمين العام للحزب من دون صلاحيات، والمبالغة في تمجيده صدّام حسين، ووصفه له بأنه "هبة السماء إلى العراق وهبة العراقيين إلى الأمة"، وكذلك صمته تجاه ما فعله صدّام بقادة بعثيين على خلفية مؤامرة مزعومة، وقد رسم عفلق، بخطيئته هذه، نهايته قائداً لحزب سياسي فاعل، إلا أنه بقي، في نظر العديد، مفكراً رومانسياً حالماً إلى أن رحل.