في تعليم الفلسفة
يطرح قرار تدريس مادة الفلسفة في كتاب مستقلّ يدرّس في المرحلة الثانوية في الأردن، إلى جانب تدريس مناهج فلسفية متنوعة، عبر جميع المواد الدراسية في المرحلة الأساسية، نقاشا مفتوحا بشأن أزمة التعليم الفلسفي في العالم العربي.
يدخل القرار الأردني التنفيذ في العام الدراسي 2024/ 2025، ضمن الإطار العام للدراسات الاجتماعية، بعد الانتهاء من وضع المناهج المخصًصة للفلسفة التي تعود بعد انقطاع دام أكثر من 45 عاماً، تخلّلها تدريس بعض القضايا الفلسفية والمنطق في فترات متقطعة سابقة. الجدالات مستمرّة بشأن إعادة تدريس المادة وطرائقها بين طرف مؤيد لذلك، وآخر لديه تحفّظات عديدة لأسباب دينية واجتماعية وأكاديمية، أو تسويقية. ويعزّز هذا النقاش تنوّع القضايا وراهنيتها، ويفتح على حقول معرفية أخرى في السوسيولوجيا، والأدب والتاريخ، ويعمّق النقاش في قضايا مثل الديمقراطية والثورة، والحرب، والصراع الطبقي، وحدود الليبرالية، ومستقبل الدولة الوطنية، والتدبير العقلاني للشأن العام، وتشخيص الحضارة الغربية، في ظل التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يعرفها العالم.
غنى هذه المواضيع، يوحي به حق الفلسفة بوصفها مجالا لابتكار المفاهيم، بالمعنى الذي أقرّه جيل دولوز وفيليكس غاتاري، ولإجراءاتها أيضا. تستدعي الردود الرافضة تدريس المادة احتياطات منهجية، تحدّد شكل اليقظة النقدية وحجمها، فالفلسفة هي التمرّد (سبينوزا)، النقد، عندما يواجه الإنسان وطأة الزمن (ياكوب)، العقل، الحرية، بوصفها فوق الدين وفوق المذاهب، ما يفسر العالم تفسيرا آخر مجازيا (نوفاليس). مدينة من دون فلسفة، من دون نقد، ميتة، معزولة عن تاريخ الأفكار. ثم إن الفلسفة السياسية النقدية هي وسيلة لاكتساب الشرعية. وقد سقطت المبادئ، وأصبح كل شيء متحرّكا في الحياة الإنسانية. وافتقد الإنسان المعاصر السيطرة على ذاته وعلى قراره (جورجيو أغافي)، وما يمكن أن تكون عليه الدول وعمليات عقلنة المجال والفعل السياسيين.
من طبيعة الفلسفة الدفاع عن الحرية والتسامح الديني ضد الأنظمة المستبدّة، وضد مبادئ توريث الامتيازات، وتوسّع الآفاق
لهذا، تكتسب الدعوة إلى إدراج مفاهيم تعلم الفلسفة في الأردن عنوانا مهما للنقاش والتفكّر، والتحليل والمداولة، بشأن واقع الفلسفة في العالم العربي. الأزمة أشمل في موقعها التاريخي والجغرافي والسياسي. لطالما كانت الفلسفة تعبّر عن تجربة أزمنتها الخاصة، كمشروع يرتبط بالجامعة، وواقع التربية في المفهوم الغربي، مدرسةً وجامعة، وهي مفاهيم ليست متماسكة من حيث أهداف المساحات الثقافية والسياسية، ومن حيث الاستقلالية المتزايدة للعلوم والسلطات النقدية والعلمية. استغرقت الموافقة على تعديلاتٍ في مناهج مادة التاريخ في فرنسا سنة من النقاشات الإعلامية والبرلمانية والحكومية لإقرارها، من دون أن يتضمّن ذلك مخاطرعلى بنية الدولة الفرنسية ومفهومها، ومن دون انقطاع تاريخي، وهيمنة أفكار أخرى. ما ينطبق على التاريخ ينطبق على الفلسفة، والعلوم الأخرى، فهي تهيئ حقلا مثمرا للاستثمارات الأيديولوجية، والأكثر عرضة للتلاعب من قوى ومصالح سياسية واقتصادية وغيرها. وحان الوقت ليعود العالم العربي والإسلامي إلى الواقع الذي كان لدينا فيه ألف فيلسوف اشتغلوا على اللغة الدقيقة، المحملة في كل فقرة وفي كل صفحة، كلمة العقل والتعقل والعقلانية، وتأثر بها الفكر اليوناني، ونقلوها إلى أوروبا منذ ألف سنة، حين كانت أوروبا في حروبٍ طاحنة. خرجت كل الأفكار الكبيرة الفلسفية والأدبية والنقدية في فرنسا وألمانيا من الجامعات التي صنعت مجد الفلسفة. وحين تراجعت الأخيرة، خرجت الأفكار العنصرية والدينية والمذهبية والإثنية، لأنها لا تستطيع أن تكون في مستوى سارتر، ألبير كامو، هايدغر، توكفيل، هيغل، ماركس، دوركهايم، سان سيمون، فيبر، فوكو، دولوز .. .
من طبيعة الفلسفة الدفاع عن الحرية والتسامح الديني ضد الأنظمة المستبدّة، وضد مبادئ توريث الامتيازات، وتوسّع الآفاق، وهي حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لبناء الدولة المدنية (أرسطو)، للخروج من المضائق، وعلى نحوٍ لا يمكن إلغاؤها من المناهج التربوية العربية، لولا انقطاع تدريس أقسام الفلسفة، بسبب البحث عن أساتذة المادة، غير المجازين للتدريس في مادتي الأدب والتاريخ. من هنا أهمية فتح المسارات، وتخريج أساتذة وتأهيلهم في التعليم الفلسفي، انطلاقا من حقل العلوم الإنسانية. علم أساسي جدا في مرحلة ما بعد الحداثة التي زعزعت كل اليقينيات، ومنعت الإنسان من إعادة تذكّر ذاته، تحرّره من أوهامها، ليكون أفضل العوالم (لايبنيس)، من دون التخلي عن مكتسباتها، ومناقشة الحاجات التي يكتمل بها وجود الإنسان (إريك فروم).
تكتسب الدعوة إلى إدراج مفاهيم تعلم الفلسفة في الأردن عنواناً مهماً للنقاش والتفكّر والتحليل والمداولة
إغفال أهمية الفلسفة فكرة محافظة في المصطلح التقليدي البارد، وكذلك الكلام عن فلسفة عربية وحدها، إزاء فلسفة غربية من نوع التفريق في البرامج بين الغزالي وديكارت، بين ابن سينا وهايدغر، بين الوجوديين العرب والغربيين. هي مادة واحدة، يشكّل كتابها اليوم الأكثر قراءة، في أوساط الشباب الفرنسي والألماني، في دينامية ترويج الفلسفة عند الأطفال والبالغين بشكل ناجح جدا، ما يستوحي عصر هيغل الذي استوعب في سن الحادية عشرة أوجه، وقواعد المنطق الفلسفي (فلسفة الحق)، في صيغة ذلك الحين. ليس هيغل مثالا إلا للتغيير في البيئة المفاهيمية والجدلية لصيغة "الذي لم يصبح بعد". الكلام عن أن لا قيمة مضافة للفلسفة، وأنها لا تؤدّي وظيفة تنموية، وتتلاعب بعقول الشباب، يفرض العودة إلى كوزان، وجدلياته بضرورة الشروع في تعلم قضايا الفلسفة في سنّ مبكرة، إذا كان مضمون التعليم ملائما، فالطالب "الذي أنهى دروس اللسانيات، والبلاغة، كما درس الفيزياء والرياضيات، باستطاعته فهم البراهين البسيطة، والمثبتة، التي تقدّمها الحقائق الطبيعية العظمى". ولكن الأمر متعلقٌ بأساتذة المادة وإشكالية تعليمها، ومن يحق له سلطة التدريس.
الفلسفة قضايا حياتية لها علاقة بقرارات الإنسان وخياراته، ويومياته ونضالاته، من نوع حديث الفيلسوفة، جيل زاسك، أخيرا، وتطالب فيه الشباب الفرنسي "بالعودة حارسا لكوكب الأرض، والتعاطي مع العالم انطلاقا من التقاليد الموروثة"، في الإشارة إلى ما بين البيئة والأخلاقيات في الحفاظ على مستقبل الكوكب، بالتعاطي مع الموارد الطبيعية والجفاف والتصحّر، وتعديل النظام الغذائي والاستهلاكي. إذن، الفلسفة موجودة، ينبغي استثمارها بمسار إيضاح كل الرهانات الأساسية المتعلقة بمصائرالناس واختباراتهم، ووعي عامل الخروج من غربة الأشباح، والتفكّر بالمجالات التي يمكن أن تفيد الإنسان، وتعزّز سعادته. حتى في التفسير الثقافي لجرائم القتل (ريلكه)، وفي زمن الحروب يطرح السؤال: لماذا يفقد الإنسان لغة الحياة (ياكوب)؟ لا يتعلق الأمر بتذكّر أسماء قليلة جدا لفلاسفة عرب (المغرب العربي)، فالفلسفة منحى إنساني، لا تكتفي بأسماء، مع كم من الفلاسفة الوجوديين، وفلاسفة عصر النهضة والقرن العشرين. إذن، لنهيئ لها مصطلحاتها مع لغة الشباب والأطفال. ليست الفلسفة مادّة خارج الحياة المعاصرة، هي المادة الوحيدة التي تعنى بالحياة.