في تفعيل الدائرة الدستورية الليبية
بعد سنوات من إقفالها، تعود الدائرة الدستورية في ليبيا اليوم إلى المشهد، بعدما قرّرت الجمعية العمومية للمحكمة العليا في ليبيا، في 18 الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، إعادة تفعيلها، في مشهد سياسي متقلب بين السياسة والقوانين تمر به البلاد، حيث لم يبق شيء من الشرعية السياسية في الحكم أو الاحتكام يمكن الرجوع إليه عند الاختلاف، الأمر الذي جعل كثيرين ينادون بضرورة تفعيل الدائرة الدستورية للفصل في قضايا كثيرة مربكة للشأن الليبي، وكذلك كسر هذا الجمود السياسي والرجوع بالبلاد إلى شيءٍ من الشرعية السياسية والدستورية.
وإن كان هذا المطلب أصيلاً من حيث المبدأ، إلا أنه في سياسة البلاد اليوم من الصعوبة بمكان تحقيقه، الأمر الذي يقودنا، في بادئ الأمر، إلى الوقوف على الأسباب التي على أثرها أقفلت الدائرة الدستورية، ومدى زوالها، أو إحداث تغييرٍ فيها لتكون الدائرة الدستورية واقعاً منضبطاً دستورياً، ولا تنجرّ وراء الأفعال السياسية واصطفافاتها.
عود على بدء .. كان إقفال الدائرة الدستورية إبّان الأزمة الليبية بعد انتخاب مجلس النواب في 2014، حيث كانت هناك أزمة دستورية، محورها استمرار المؤتمر الوطني العام، وإبطال قانون ولجنة فبراير المشكّلة من المؤتمر الوطني العام، حيث أبطل الحكم القضائي مقترحات "لجنة فبراير"، والتعديل الدستوري السابع الذي كان لبُّه "عدم دستورية الفقرة 11 من المادّة 30 من الإعلان الدستوري، المعدّلة بموجب التعديل الدستوري السابع الصادر في 11 مارس 2014 وكافة الآثار المترتبة عنه"، وبالتالي عدم شرعية البرلمان الحالي. ليكون على أثرها خلاف سياسي وانقسام حاد في البلاد انتهى باتفاق الصخيرات في 2015، ولتعلن الجمعية العمومية للمحكمة، في 5 مايو/ أيار 2016، قرارها رقم 7 لعام 2016 القاضي بتأجيل وتعطيل النظر في القضايا المنظورة أمام الدائرة الدستورية إلى إشعار آخر، ربما تفادياً لأي تعطيل سياسي بقوانين دستورية لا يمكن أن تسلم من الطعن والإسقاط.
تعود الدائرة الدستورية إلى المشهد في ظل استقطاب حاد وصل إليها، وفي ظل تمزّق في المشهد السياسي، وانعدام الضوابط والآليات
عموما، هكذا كان المشهد في ذلك الوقت، فلا اتفاق متفقٌ عليه، ولا قوانين دستورية مفعّلة وقائمة؛ بل ارتباك في المشهد، ولتكون القاطرة السياسية تسير وفق الرياح التي تعتريها، فلا ضابط لها، ولا دستور يُقوّمها، ولا محاكم تُصلح عملها، بل على النقيض من ذلك، تدخلت الأجسام السياسية المتنفذة في البلاد في قضايا حساسة كثيرة في محاولة منها لتطويعها في مسارها واستقطابها، ولا مثال واضحاً على هذا العبث الدستوري من تجديد الأجسام السياسية القائمة لنفسها سنوات متعدّدة من دون حسيب أو رقيب، بل وتعطيل كل محاولة انتخابية لتجديد هذه الأجسام، الأمر الذي لم يكن ليكون في حالة عمل الدائرة الدستورية في البلاد وعدم تعطيلها، باعتبار أن ذلك من صميم تخصّصها بحسب القانون، سواء في الفصل في الطعون ذات الجانب الدستوري التي تنتهك القوانين والمواد الدستورية من تمديد أو أي إجراء مخالف، وكذلك القضايا الخلافية المعطّلة أي استحقاق وطني ملزم، إذ إن القوانين والتشريعات يمكن أن تقوم وفق هذه الدائرة الدستورية، ناهيك بأي مخالفة للإعلان الدستوري.
اليوم وبعد مرور ما يقارب ثماني سنوات من تعطيلها، تعود الدائرة الدستورية إلى المشهد في ظل استقطاب حاد وصل إليها، وفي ظل تمزّق في المشهد السياسي، وانعدام الضوابط والآليات، وتجاذبات اختلفت فيها الموازين الداخلية، تحمل في طياتها، ربما، أبعادا سياسية، أكثر من كونها دستورية وقانونية، خصوصا بعد تأجيل البتّ في الطعون المقدّمة إليها سنوات وسنوات، الأمر الذي يطرح سؤالا جوهريا عن آلية عمل هذه الدائرة. هل سيكون من حيث انتهت، أم أن لها رأيا آخر، خصوصا في جانب ضبط الإيقاع التشريعي، بما لا يخالف القواعد الدستورية الحاكمة، وفي مقدمها الإعلان الدستوري وتعديلاته، ومدى قدرتها على تصحيح الإطار الدستوري الحالي، وليكون بداية انفراج للأزمة السياسية والدستورية القائمة، وكذلك وضع الأجسام السياسية الحالية في إطارها الحقيقي، للعبور نحو تجديدها، أم أن الأمر مختلف، وما إعادة التفعيل إلا دخول في السياسة من أبواب متعدّدة؟ الإجابة سوف تكون في أول فعل لها، وإن غداً لناظره لقريب.