في تفكيك فقه الاستبداد
يمضي أستاذنا المفكر السياسي، سيف الدين عبد الفتاح، في إنجاز مهماته في تفكيك البنى الفكرية والمعرفية التي تبرّر الاستبداد وتسوّغه في التراث السياسي الإسلامي، وتجعل منه أمراً مقبولاً، بل وكأنّه الأصل والحرية والشرعية السياسية القانونية المبنية على إرادة الأمة بمثابة الاستثناء.
في مقالته أول من أمس (4/3/2022) في "العربي الجديد" ينقد مقولة "ستون سنة بسلطان ظالم خير من ليلةٍ بلا سلطان" التي ذكرها ابن تيمية في أكثر من موضع، سواء في الفتاوى أو حتى في كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية". وجاء المقال ضمن سلسلة مقالات أخذت المنوال نفسه لأستاذنا، فهنالك أيضاً مقال في تفكيك مقولتي "سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم" و"من اشتدّت وطأته وجبت طاعته"، وكذا مقولة "المستبد العادل"، وذلك كلّه ضمن ما أطلق عليه عبد الفتاح "علم دراسة الاستبداد"، وهو حقل معرفي وبحثي مهم ومعروف في العلوم السياسية، مع التذكير بأنّ رسالة الدكتوراه لأستاذنا عن التجديد السياسي في الفكر الإسلامي قد تناولت هذا الموضوع بصورة مبتكرة من خلال مفهوم "الرابطة الفرعونية" كمصطلح قرآني عن الأنظمة الاستبدادية.
ما يقوم به سيف الدين عبد الفتاح مقدّر، وهو إضافة من مفكرٍ كبير وباحثٍ ضليع. وإذا كانت ثمّة ملاحظات يمكن أن تُضاف في هذا السياق، فتتمثل في أكثر من جانب. الأول أنّ المشكلة هي ليست فقط في تفكيك البنى الداخلية لهذه المقولات التي حكمت التراث السياسي الإسلامي، وما تزال مؤثرة على نسبة كبيرة من مدارس الفقة الإسلامي والفكر الإسلامي، إنّما (المشكلة) تكمن أيضاً، وبدرجة أهم، في عزل هذه المنتجات الفقهية عن سياقاتها التاريخية والإكراهات الواقعية وتقديمها كأنّها في منزلةٍ موازيةٍ للنص المُنزل، مقدسّة، ومطلقة، وسحبها إلى الواقع السياسي الراهن. وهذا ليس خطأ، بل جريمة تاريخية وفكرية وثقافية مكتملة الأركان، لأنّ أصحاب تلك المقولات، منذ بداية ظهور كتب مستقلة في الفقه السياسي الإسلامي، من الماوردي وأبي يعلى مروراً بالجويني والغزالي وابن جماعة وابن تيمية، ولاحقاً ابن خلدون، لم يدّعوا أنّ ما قالوه يمثل النصوص الشرعية، بل هو محاولة لتقنين الواقع السياسي ضمن منظور المصالح والمفاسد بدرجة كبيرة. ولا يتسع المقال القصير هنا إلى ذكر نماذج كثيرة مما قالوه في هذا الشأن، فابن تيمية عندما ذكر العبارة السابقة "ستون سنة.." أتبعها بالقول إنّ التجربة هي البرهان على ذلك، والجويني اتبع منهجية المصالح والمفاسد في بناء كتابه الغياثي كاملاً.
ولعلّه من باب الإنصاف القول إنّ الإدعاء أنّ الفقهاء كان يمكن أن يقولوا كلاماً آخر غير صحيح، من حيث المبدأ، وغير ممكن، لأنّ دور الفقيه لم يكن ليسبح بالخيال ويقدّم ما يجب أن يكون، إنما التعامل مع الواقع السياسي في ضوء ما هو ممكن وما يمكن فعله لتجنب أكبر المفاسد وتحقيق أعلى المصالح، فابن تيمية مثلاً عاش في مرحلة اضطراباتٍ سياسيةٍ هائلة وغزو مغولي وخلافات داخلية كبيرة، والحال كذلك لابن جماعة، وشروط السلطة مرتبطة بالقوة والغلبة، ولم يكن هنالك خيار آخر، وقبل ذلك، كان دور الماوردي تدبير العلاقة بين العباسيين والبويهيين، وبعده الجويني والغزالي، العلاقة مع السلاجقة، في ظل تحدّيات تاريخية وشروط صعبة. وأغلب هؤلاء الفقهاء كانوا مرتبطين بالمؤسسات الدينية وفي مناصب مهمة كالقضاء والتدريس والجهاز الأيديولوجي للدولة.
لم تولد مفاهيم الشوكة والقوة والعصبية والتيار الواقعي في الفقه الإسلامي من فراغ، بل كانت مرتبطةً بسياقاته، لكن المشكلة الكبرى، مرّة أخرى، تتمثل بعزلها عن تلك الشروط، وهو ما يقودنا إلى الجريمة الثانية، وهي أدلجة المفاهيم الفقهية في المجال السياسي، وكأنّ ما قالوه جزء من الأيديولوجيا الإسلامية التي استندت إليها أغلب الحركات الإسلامية في بناء رؤاها الفكرية، وهي أسس متخيّلة وليست واقعية، شكّلت للآسف حلماً غير واقعي لملايين الشباب المسلم، وهو الخيال نفسه الذي استخدمه تنظيم داعش للتلاعب بعواطف هؤلاء الشباب وجرّهم إلى شباكه، عبر استخدام منظومة الرموز التاريخية والفقهية والأيديولوجية تلك!