في تقييم أحداث المدن الفرنسية
يجري في فرنسا تقييم شامل لما جرى من أحداث في المدن الفرنسية، وسط قلق من اندلاع أعمال شغب أخرى في حال لم تتدارك السلطات خطورة ما حدث أخيرا، ويحذّر نواب وسياسيون وإعلاميون من اليمين واليسار من توسّع الفجوة بين الحكومة وسكان الضواحي، فيما قدّر حجم الأضرار والخسائر بنحو 650 مليون يورو نتيجة أعمال الشغب. وتواصل الصحافة الفرنسية محاولة تقييم أثر ما حدث، والبحث عن الأسباب الحقيقية لاندلاع الفوضى، وما الذي يدفع شبابا فرنسيين في عمر المراهقة إلى الشارع الخطر، وسط تخوّفات أخرى من تهديد الإرهاب الذي لا يزال في فرنسا ممن يعرفون بالذئاب المنفردة، أو من المراهقين الذين يتأثّرون بخطاب الكراهية والتحريض على العنف. هذا في وقتٍ تنحرط فيه باريس بإجراءات استعدادا للموسم الصيفي/ السياحي، والتحضير لاستقبال الألعاب الأولمبية العام المقبل. تحوّلت الأحداث إلى إشكالية مثيرة للجدل إعلاميا بين المواطنين والسياسيين ممثلي الأحزاب والتيارات السياسية المختلفة. ليس تقييم ما جرى معطى نهائيا، تلمس لمرحلة معينة ومحاولة فهمها حاليا ومستقبليا، وهو ما تفعله وسائل الإعلام الفرنسية، بدءا من المسألة القانونية، وهي من النقاط شديدة الخطورة في إدارة الثقافة المواطنية في مجتمع تعدّدي مثل الجمهورية الفرنسية. (هل تستعمل إزاء الأحداث الوسائل القانونية أم لا؟)، وإذا اقتصى الأمر: هل من الممكن الاعتماد على الأيديولوجيا؟ وقد تثمر في التعبئة مؤقتا ليولد بعدئذ اليأس والمرارة والإحباط، وتلي عندئذ أيديولوجيا أخرى بديلة تستغلّ رمزية التغيير للتعبئة في التنافس السياسي تجاه ناس الضواحي، وهو تماما ما يفعله اليمين الفرنسي المتطرّف، الذي يستخدم كل الفرص، ويتصرّف على أساس أنه على مسافة قريبة من الوصول إلى الإليزيه، حيث لا يرى نهاية واضحة لولاية الرئيس إيمانويل ماكرون، ولمن يمكن أن يكون البديل ليلعب دوره مع تشتّت ظاهرة اليسار بعيدا عن الحكم.
يركّز ماكرون على أهمية المعالجة وبشكل جذري، مستعينا بعبارةٍ كرّرها في كل حملاته الانتخابية "المجتمع المفتوح"، ومنها تتفرّع أسئلة فرعية عديدة. ما الذي يدفع الفرنسيين إلى معاودة الاختبار بعد العام 2005، وهو اختبار إنساني وأخلاقي وسياسي وأخلاقي تاريخي (الأكثر راديكالية هذه الأيام في الإعلام العربي). والسؤال أيضا بشأن التداعيات والقرارات السياسية التي يمكن أن تتّخذها حكومة رئيسة الوزراء إليزابيث بورن. ليست مقاربة بين الإعلامين العربي والغربي. كأن بعض الإعلام العربي ينسى من الأصل الانفتاح الفرنسي الذي حصل منذ سبعينيات القرن الماضي، فيعود إلى الخطاب الذي يتردّد على مستوى التحذير من مخاطر الانغلاق العائد، عودة الشبكات العنصرية، أشكال النبذ.
طرحت الميديا الفرنسية فعليا فكرة أن يكون الرأي العام أفضل، لم تكتف بدور المراقب للأحداث، بل كانت الإعلام الذي بإمكانه تشكيل اللعبة السياسية وخروجها من دائرة العجز
يعود الفرنسيون اليوم إلى هذا السؤال الذي كانوا يجدونه ثانويا، بكل عنفوانهم، ويطرحون آراء متخصّصة اجتماعية وأنثروبولوجية وفلسفية لتحديد حجم المسؤوليات وتحديد خطوات أخرى، بحثا عن جذور الأزمة المتراكمة على مدى 40 عاما من الفوضى في الضواحي. لا تقتصر الأبحاث عليها كمساحة واحدة، أو بالأحرى مساحات يستشعرها الفرنسيون والعالم أيضا بين التمييز، وبين عمق فكرة المجتمع التعددي. الدولة الفرنسية لم تتخل عن قيم العدالة والنظام الجمهوري. يدفع الفرنسيون في استطلاعات الرأي الأمن إلى المركز الثاني في سلم اهتماماتهم، ويفضلون الحزم على الحوار لحل المشكلات، وتوجيه خطاب المجتمع التعدّدي الحقيقي/ السياسي، أو الديني، أو العالمي الأخلاقي والاجتماعي، ما يشكّل إعادة انطلاق، وبفضلها يمكن التفكير بالخروج من الوضع المفخّخ، والكفّ عن الاستكانة على انعكاسات مكتسبة.
ليست هذه حالة الإعلام العربي الذي لم ينتظر، ذهب إلى الحسم والمخاطرة في مادّة تضغط على التوازن الاجتماعي في فرنسا، الذي يضمن تواصلا فعالا، ويحدّد أدوار اللاعبين الفرنسيين في لحظة ضعفٍ وخوف. وفي تبنّي حراك شبابي، ليس مستقبليا. طرحت الميديا الفرنسية فعليا فكرة أن يكون الرأي العام أفضل، لم تكتف بدور المراقب للأحداث، بل كانت الإعلام الذي بإمكانه تشكيل اللعبة السياسية وخروجها من دائرة العجز، عبر الرهان على أدوات الحكم الرشيد، كرافعة للتغيير الاجتماعي أو تخفيف الفقر، كي لا يبقى أي فعلٍ من دون أساس واقعي، وخارج الأرض. في المقابل، حاول الإعلام العربي إلقاء اللوم على الذين يؤطّرون ويوقعون الحلول، من دون الإشارة إلى عناصر لا متوازية أخرى، تتحرّك في الفوضى، وقارب تفهم العنف في حالتين مختلفتين. جاءت أحداث 2005 تعبيرا عن ثورة اجتماعية حقيقية، وما كانت علاقة الكراهية بين الشباب والشرطة على هذه الدرجة من التوتر. وبطبيعة معادية للغرب ودوله الليبرالية وثقافته. هذا لم يخف طرح مسألة أنثروبولوجيا الإسلام وإرث الخصوصية الاستعمارية الغربية، ودرس العجز الديمقراطي، والفقر الفكري لمؤسّسة الشرطة، وأن الأمن يحتاج الى تقييم آخر (ليس الفقر وحده من يولّد العنف)، بل مسألة الاقتصاد الموازي في الأحياء وعصابات لبيع المخدّرات، تدمر الحياة العائلية/ الأسرية والوطنية في وسط متفجّر من الهويات المتآلفة، لا المتعايشة. فيما ركز الإعلام العربي على سببية الصراع الطبقي والليبرالية ومسألة العنصرية وقضايا الهجرة والتمييز، وحصر المسؤولية بالفريق الأقوى الحاكم، من دون توزيع المسؤوليات على مجتمع المهاجرين (لم يؤكّد استعداده للاندماج ضمن تآلف الهويات). ليس هناك تلك الكراهية القصوى من منظورٍ مقارن مع ما يمارسه العرب والمسلمون على شعوبهم، لتشكل مبررا لحملات الإدانة المعزولة التي تأتي من دول إقليمية، مثل تركيا وإيران ومصر وسورية، بل ما يمارسه الآخرون في ميانمار والهند والإيغور في الصين، وما تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين أكبر، هناك الكراهية، وهناك القتل والانتقام.
المجتمع الفرنسي اندماجي، جاذب للعمالة، ويؤمّن شروط النمو الاقتصادي
المجتمع الفرنسي اندماجي، جاذب للعمالة، ويؤمّن شروط النمو الاقتصادي. نجح في استيعاب موجاتٍ من الهجرات العربية والإسلامية، ومن شبه القارّة الهندية، متقدّما على محيطه الأوروبي في ظل تعاقب السلطة بين أحزاب اشتراكية ويمينية معتدلة قبل تحوّلها الى عنصرية، (باستثناء خصوصية الاستعمار وعنفه التاريخي). مجتمع كان بمثابة الملجأ للمبدعين والطلاب ونشطاء حقوقيين ومواطنين عاديين من قارّات مختلفة. ولكن ليس على طريقة المجتمعات المحلية، والشباب الذي يعصف بالضواحي، ويحرق أكثر من مائة مبنى حكومي ومدارس، عشرات الحافلات، عربات القطار، ويُضرم النار في المصارف والسيارات، وينهب عددا لا حصر له من المتاجر، محلات الدخان مثلا (320 محلا)، ويخرّب مكتبة الكازار في مرسيليا، أي أن يصنع كل مهاجر إمبراطوريته، ربطا بقضية هجرة هي نتيجة عوامل عديدة من الصراع العربي – الإسرائيلي، الاستعمار الفرنسي في الجزائر، عدم تصفية آثار الحقبة الكولونيالية، مرحلة الإحياء الإسلامي في الثمانينيات. وتحظى مسألة العنصرية عادة باهتمامات العلاقات الاجتماعية الشرقية، تطوّرت إلى كتاباتٍ بكراهية، تهدّد بانهيار نظام استثماري في الضواحي (نحو 30 مليار يورو). تظهر استطلاعات الرأي أخيرا الرفض الشديد عند المواطنين الفرنسيين لمنح مساعدات جديدة للضواحي في الموازنة المقبلة.