في ذكرى طه حسين
في ذكرى مرور نصف قرن على رحيل عميدِ الأدب العربي، طه حسين (1889- 28 أكتوبر 1973)، نقل الأديب محمد كامل الخطيب، قولَه، في الصفحة 138 من كتابه "الأيام": أودّعكم بكثير من الألم، وقليل من الأمل.. وقولاً آخر تنبّأ فيه ببطء عملية التطوّر في بلادنا العربية: يخيل إليّ أن ما كافحنا من أجله هو نفسه ما زال يحتاج إلى كفاحكم، وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم. ويعبّر الخطيب، في مدوّنته، عن وجود بعضٍ من تلاميذ هذا التنويري الكبير، طه حسين، في بلادنا، على الرغم من الظروف المؤلمة الحالية، والخطيب منهم، فيكتب له: نودّعك بقلوب وعقول مصمّمة على السير في الطريق العقلاني الإنساني النهضوي التنويري الشعبي، طريق الحرية، الذي رسمتَ مساره وهدفه.
مَن يقرأ سيرة طه حسين، يجد أن حياته سلسلة غير متناهية من التجديف في أرض موحلة، استهلّها والداه بخطأ رهيب، حينما أُصيب بالرمد وهو طفل، فتشاورا في أمر عرضه إما على الشيخ فلان، أو على الحلّاق فلان، بينما كان الأمر يتطلّب عرضَه على طبيبٍ مختصّ بالأمراض العينية، ففقد، بذلك، أهم حاسّة ستلزم له في قابل الأيام، البصر. وأصبح في حاجة ماسّة لأن يقوم غيرُه عنه بدور العينين، يقرأ له، أو يترجم له، أو يكتب ما يمليه عليه. ولكنه، وهو الذي يمتلك همّة علمية استثنائية، تمكّن من التغلب على هذا الأمر، وأصبح، بفضل دأبه، وذكائه، وعناده، وموسوعيّته، طه حسين الذي نعرف.
شهرة كتاب "في الشعر الجاهلي"، الذي كان ثمرة محاضرات ألقاها على طلابه في العام الجامعي 1925- 1926، ليست نابعة من أهمية محتواه بحدّ ذاتها، فهو مبني على فكرة رئيسية؛ أن الأشعار التي وصلت إلينا من العصر الجاهلي كُتبت في العصور الإسلامية اللاحقة، ونُسبت إلى ذلك العصر، فهذه فرضيةٌ قد تصيب وقد تخطئ، ولكن شهرته وأهميته جاءتا من المقاومة الشرسة التي لقيتها آراؤه المدوّنة في الكتاب، من المجتمع المصري، ومن المجتمع العربي عموماً، بدليل أن اللبناني شكيب أرسلان كان من أوائل الذين هاجموه، وكان طه حسين يتوقع ذلك، فكتب في مقدّمة الكتاب: هذا نحوٌ من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل، وأكاد أثق بأن فريقاً منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقاً آخر سَيَزْوَرُّون عنه ازوراراً. .. وفي تفسير ذلك الرفض العنيف للكتاب، حاول الكاتب المصري، مؤمن المحمدي، أن يضع إصبعه على أساس المسألة، وهي أن الشاعر والناقد مصطفى صادق الرافعي لم يؤلف كتابين يدحض بهما "في الشعر الجاهلي"، ومستقبل الثقافة في مصر" بسبب عداوة سابقة بينهما، وسجال صحافي، بل لأن النخب الثقافية في ذلك الزمن، ومنها الرافعي، كانت تفرّق بين نوعين من الوجود الأجنبي على أراضينا، أولهما العثماني الذي كانوا يروْن أنه مجرّد "احتلال"، وثانيهما الوجود البريطاني، وكل ما يأتي من الغرب، ويسمّونه "استعماراً"، ولذلك يرفضون الاستشراق، لارتباطه في أذهانهم بالاستعمار. والواقع أن المستشرق يجرّد الظواهر التي يدرسها من القداسة، بمعنى أنه يسيء لديننا الحنيف، ويكون ذلك عن موقف عدائي لثقافتنا، أو عن حيادية، وهذا بالضبط ما فعله طه حسين في كتابه، إذ تجرّد من فكرة القداسة، كما لو أنه مستشرقٌ حيادي، وهذا ما يفسّر مخاطبة الرافعي له بلقب "المستر طه حسين".
المهم أن الحملة على طه حسين أعطت نتيجتين مريحتيْن للتيار المعادي للأفكار الجديدة: الأولى؛ اضطرارُه للتراجع عن أفكارٍ كثيرة وردت في الطبعة الأولى من الكتاب، وتغيير عنوانه، والثانية إحالته إلى القضاء، ومحاكمته. ولعله من حسن الحظ أن القاضي محمد نور تفهّم القضية، فقرأ الكتاب، وتوصل إلى أن هذا بحثٌ علميُّ مشروع، وأن الكاتب بريء مما نُسب إليه.