في متحف أم كلثوم و"أروح لمين"
لن يصدّق الزائرالفضولي أنّه على هذه المسافة القريبة جداً من أثوابها الجميلة أنيقة التصميم، الأبيض المطرّز باللؤلؤ، الوردي المزركش، الأخضرالزيتوني، القطيفة الأسود بأكمامه العريضة، ومن حقائبها الجلدية الأنيقة الفاخرة وقفازاتها ومناديلها ونظاراتها السوداء، ودفتر صغير مدوّن فيه وبخط يدها مواعيد وملاحظات، فيما صوتها ينطلق في أروقة المتحف الذي يحمل اسمها وهي تغنّي "أروح لمين وأقول يا مين ينصفني منك..." التي غنّتها عام 1958 من كلمات عبد المنعم السباعي وألحان العبقري رياض السنباطي. والرواد من الزائرين العرب يدندون كلمات الاغنية معها، وهم يتجوّلون فرحين في أرجاء المتحف بمهابة وانفعال يلتقطون الصور لمسوّدات أغانيها الخالدة، ويتأملون بانبهار في كلماتٍ بخطّ أحمد شوقي الدقيق المنمنم وفي مسوّدات قصائد أحمد رامي وبيرم التونسي وغيرهما من عظماء ذلك الزمن البهي.
حياةٌ بأكملها لسيدةٍ استثنائية لن تتكرّر، حياة ثريّة متنوعة مشتبكة مع تاريخ مصر الحديث، معروضة خلف الواجهات الزجاجية، تفاصيل صغيرة تحكي قصةً كبيرة، أوسمة وهدايا شخصية من رؤساء دول، دروع، رسائل تقدير، صور شخصية عتيقة تجسّد مراحل حياتها منذ وصولها من قريتها الصغيرة، طماي الزهايره، فتاةً في مقتبل العمر ترتدي الكوفية والعقال إلى قاهرة الفن والأنوار والباشوات السّمّعية، لتصبح كوكب الشرق الذي لن ينطفئ، ما دام الحب والجمال.
لحظات ثمينة في حضرة أم كلثوم تستعيد الأشياء معناها، الكلمة، اللحن، الصوت، ويسترد الفن مكانته العالية ويصبح الحنين للماضي حقا مشروعا لعشاق الأصالة، ثمّة مكتبة متخصّصة تضم كتبا ومجلات عتيقة تناولت حياتها وأخبارها. ولن يتسع الوقت للأطلاع على المكتبة الموسيقية التي ضمّت إرثها الغنائي منذ البدايات المبكرة إلى آخر أغنية قدمتها (مسجّلة) "حكم علينا الهوى" (بليغ حمدي) قبل رحيلها عام 1975.
يقع المتحف في منطقة الروضة بالمنيل في إحدى قاعات قصر المانسترلي المطلّة حديقته على النيل، بقعة فسيحة جميلة، تركن إليها بعد جرعة الجمال التي تذوقتها في المتحف الصغير خلال رحلتك إلى الماضي، حين كانت القاهرة في عزّ ألقها وحيويتها وتنويرها، لحظة ارتياح خاطفة تبعث في نفسك البهجة، وتجعلك تتخفّف من صدمتك إذا كنت لم تزر مصر منذ وقت طويل. يرعبك الهجوم الإسمنتي المخيف الذي أتى على المساحات الخضراء التي ميزت شوارع القاهرة ذات ذكريات بعيدة كانت زيارتها آنذاك سبباً حقيقياً للفرح. ستلمس حال مغادرتك أرض المتحف مدى اكتئاب المدينة لأسبابٍ باتت معروفة للجميع، في مقدمتها الحضور الأمني الثقيل في كلّ تفاصيل الحياة والأحوال الاقتصادية الصعبة، وتدني قيمة الجنيه المصري إلى درجة غير مسبوقة، ما يبرّر حالة التجهّم والضيق الواضحة على وجوه المواطنين الغارقين في همومهم المعيشية الضاغطة.
ما إن تهبط الى الشوارع الشعبية حتى يتلوث سمعك، وتُنتهك ذائقتك بأغانٍ هابطة من وزن "هاتو الفلوس اللي عليكو يا عيلة واطية وكدّابه" وغيرها من فظائع تثير الغثيان. تلوذ من ذلك كله حين تستقل السيارة وتهرُب إلى صوت الست من جديد. يعيد إليك توازنك، تؤلمك تفاصيل تستمع إليها من مواطنين، على تباين مستواهم الثقافي والاجتماعي. الجميع يتذمر ويشكو مرّ الشكوى من واقع صعب يتطلب حلولا عاجلة وجذرية، من شأنها أن يستردّ الإنسان المصري حقه المشروع في التعليم والصحة وفرص العمل والأجور العادلة التي تتناسب مع الغلاء الفاحش للأسعار. قد لا يختلف الحال في دول عربية عديدة، تختبر المعاناة ذاتها، غير أنّ المشهد في الشارع المصري أكثر حدّة وفجاجة وترويعاً، إذ لم يبقَ للمصري سوى الصراخ من عمق وجعه: "أروح لمين".