في مراوغة اليأس

05 أكتوبر 2024

(إبراهيم الصلحي)

+ الخط -

لستُ أتذكّر اسم القانونيّ الذي أجاب عن تعريف الفُحش الذي يُقاضى عليه مرتكبُه في مادة صحافية بأنه يعرِفُه عندما يراه. قياساً، لا أجدُني في حاجةٍ إلى معاجم العربية وأطاريح علماء النفس لأعرف ما هو اليأس، فكثيرٌ منه ألقاني فيه، أتعايشُ معه، يصحبني وأصحبُه في غير وقتٍ ووقت. وأراه في عديدين بيننا، أصدقاء وزملاء ومعارف، لمّا نتداول في الذي قدّامنا على الشاشات. يستبيح العدو فلسطين ولبنان، يقتُل كما يشاء، لا يكترث بشيء، ولا يحترم أحداً، ولا يلتفتُ إلى أي أخلاق أو اعتبار. والنظام العربي الرسمي، ما شاء الله، على وداعتِه إياها، على سكينتِه التي نعرف. والأمّة ترهن انتصارَها بشبّانٍ مجاهدين صبورين في غزّة، محاصًرين، متروكين، عتادُهم بعض سلاح بسيط، وإيمانٌ وفير، وإرادةٌ وبسالةٌ مؤكّدتان. ترى الأمّة أن في مقدور مقاتلين مقاومين، هناك في جنوب لبنان، أن يُحدِثوا في إسرائيل الهزيمة المشتهاة. هذا هو المشهد، فيه دمٌ كثير، وتهديمٌ، وانتهاكٌ صريحٌ للجسد العربي المبطوح لأفاعيل الإسرائيلي. كيف، إذن، لا يتسلّل اليأسُ إلى جوف كلٍّ منا، ثم يستبدّ بنا. نرى لبنان يُحاصر برّاً وبحراً وسماؤه ملعبٌ لطيران العدو القاتل. نراهم هناك في غزّة يغادرون عاماً من التمويت والتهجير والتجويع والتشريد والحصار، وفيهم بعض أملٍ بنجاةٍ في العام الذي يعبرون إليه.
ليعذُرنا الإمام علي، قال: "وكل الحادثاتِ إذا تناهَت/ فموصولٌ بها فرجٌ قريبُ". ذلك أنها فداحاتٌ في الحادثاتِ، ليس في لبنان وفلسطين فحسب، بل أيضاً في باحات خرابٍ عربيٍّ عميم، في سورية وتونس واليمن والسودان، ودولٍ أخريات، فداحاتٌ تُعمينا عن انتظار فرجٍ قريب. لأننا في يأس. وهذا، على ما يبسّط العارفون، شعورٌ بفقدان الأمل من تحقيق شيءٍ مُرتجى أو مُشتهى أو مطلوب، شعورٌ يأخُذنا إلى الذي نحن فيه، الإحباط والكآبة وما يحفّ بهما من خذلانٍ. نحاول أن ننقذ ما تبقّى في حشايانا من مضادّات، ندفع بها مرض القعود عن عملٍ ما، عن شغلٍ يهزم يباساً يزحفُ إلى أرواحنا، فتَرانا نكتُب، في الأدب والسياسة والفكر. نقول الذي يحسُن أن يقال، نحاول أن ننتزع حقّنا في الصراخ، أن ننشل الهزيمة في قيعان أبداننا، أن نقوى ما أمكن أن نقوى، أن نرى في قتل جنديٍّ إسرائيلي في رفح في الجنوب الفلسطيني أو مارون الراس في الجنوب اللبناني إسعافاً لجروحٍ في جلودنا. ولمّا قال العليّ القدير في محكم تنزيله "... إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"، حاشا أن نكون من هؤلاء، وإنما هو كفرٌ بالكذب الذي يبيعُه حاكمون بين ظَهرانَينا، يحدّثوننا، أو على الأصحّ يحدّثون أنفسهم، عن وقوفهم مع فلسطين ولبنان، وهم يُضحكون عليهم العدو الذي يتحالف بعضُهم معه، فهم أصغر من أن يُؤخذوا على محمل بعض الجدّ في هذا الشأن وغيره. حاشا أن يصير فينا يأسٌ من روح الله ورحمته، فقد قالها الباقون هناك، في حادثاتٍ متوالياتٍ، في غزّة وغيرها، ليس لهم إلا الله وحده، بعد الذي تأكّد، مائة ألف مرّة أو أكثر، عن هوانٍ يستطيبُه أهل الحكم في غير بلد عربي على قدرةٍ وكفاءة.
ليس اليأس مرضاً فعقارٌ يشفينا منه، ولا عدماً نستهوي أن نكون فيه، وإنما ناتجُ خسرانٍ كثير، وفقدانٍ مهول، أحدثتهما فينا أعطابٌ عميقةٌ في الحال العربي منذ عقود، عنوانُها الأول أوجاع هزائم لا تنفكّ تزيد وتزيد، أوجاع خيباتٍ لا ترعوي فتغادرنا. ... تبدو عظةً متعاليةً قولة الزعيم المصري العتيق، مصطفى كامل (توفي في 1908) "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس"، إبّان استنهاضه الأمة المصرية في مناهضة الاحتلال البريطاني. تبدو نائيةً عن الحقيقة المرّة، أن في الوسع أن نعيش مع اليأس، فالحياة تسعُ اثنيْنا معاً.
لنرحل إلى التاريخ، سنُصادف، في دوراته وحوادثه، أن الأمم تنام وتنهض، وأن الدنيا لا تستقيم على حال، وأن المهزومين ينتصرون تالياً، وأن المنتصرين يخسرون وينحسرون... قالها أبو البقاء الرندي: هي الأمور كما شاهدتُها دولٌ/ من سرَّه زمن ساءتْه أزمان. ... وهذه الدار لا تُبقي على أحدٍ/ ولا يدوم على حالٍ لها شانُ". ... إذن، لنُراوغ اليأس، لنُماشيَه وقتاً ونقوى عليه وقتاً... لنحاول، لعلّها صحيحةٌ قولة سعد الله ونوس، وإنْ فيها مجازٌ ظاهر، "إننا محكومون بالأمل، وما يحدُث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ" ... هل قلتُ التاريخ؟ نعم. يا لها من لعبةٍ طويلة، إذن، لسنا نملك فيها، نحنُ من غير أهل السلاح، سوى مراوغة اليأس.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.