قاعدة إبراهيم عيسى
حين يصل الأمر إلى التهديد بالقتل من أجل "فكرة"، فالتضامن أولا وثانيا وثالثا، وبلا شروط، بل إني أجد نفسي متضامنا، ومتألما، من أي عقوبةٍ يتعرّض لها أي صاحب رأي، حرمانه من عمله، أو تهديده بالحرمان منه، تقليص مساحة ظهوره، سَبه، الخوض في عرضه، التشنيع عليه، تجريسه، معايرته بمواقفه السياسية والمزايدة عليه إذا كان الخلاف دينيا، أو انحيازاته الدينية أو الحركية إذا كان الخلاف سياسيا. ولا يعني التضامن الموافقة، أو الإقرار، هذا بديهي، لكنه يعني الاستعداد لتسديد فاتورة حرية الرأي، كاملة، فلا شيء مثالي، ولا وضع مثالي، مصادرة الرأي جريمة تحول دون تقدّم المجتمع، والسماح به حل، وحق، لا يخلوان من إزعاج، ليس لأصحاب الرأي المختلف فحسب، بل أحيانا، لمن يوافقك الرأي، من حيث المبدأ، لكنه ينزعج من تحويله إلى أداة لتأجيج الصراعات والعداوات، وإنهاك المجال العام، وتشتيته، في غير طائل، طلبا لمزيد من الرواج على حساب القيمة. هذه الانتهازية لا تحول دون حق أصحابها من بائعي الوهم في بيعه، طالما أن سوق الأفكار مفتوح، (وبالمناسبة: لا يعني إغلاق السوق، هنا، أو فتحه أمام بضائع فكرية من دون أخرى، وفق حسابات الولاء والطاعة، سوى تقديم مزيد من الخدمات المجانية لجماعات العنف والإرهاب).
يتعرّض الكاتب والإعلامي إبراهيم عيسى إلى تهديد بالقتل من تنظيم القاعدة، بسبب حلقة من برنامجه "مختلف عليه" تتناول بشكل سلبي شخصية الصحابي خالد بن الوليد. تكشف التعليقات، المرعبة، على خبر التهديد بالقتل عن فشل الحل الأمني، طوال السنوات الماضية (والمقبلة)، في معالجة أفكار المتطرّفين. قد ينجح الأمن في تغييب القاعدي أو الداعشي من ساحة القتال، في سجنه، في قتله، لكنه لم، ولن، ينجح في تغييب أفكاره وانحرافاته، أو علاجه، باستخدام عصا الأمن أو السلاح. يبدو خبر التهديد بالقتل أمام تعليقاته هيّنا، تتجاوز التعليقات التهديد بالفعل إلى تبريره وتمريره وشرعنته والتحريض عليه، بشكل مباشر أو متحايل، لم تنجح الإعدامات، لم تنجح الاعتقالات، لم تنجح أفلام "الشؤون المعنوية" ومسلسلاتها، لن تقضي على فكرة إلا بفكرة، نصيحة لا يستحقها الدواعش وحدهم، بل أيضا الأنظمة التي تحتكر العنف، ولا تعرف غيره.
تفرض التعليقات وحالة الجدل حول "محتوى" إبراهيم عيسى سؤالين أساسيين: لماذا نجح إبراهيم عيسى في جذب مشاهدين واستفزاز قاعديين؟ ولماذا فشل هو وغيره من "التنويريين" في كسب رضا الأغلبية من المشاهدين والمتابعين والمعلقين، ولا زالوا هامشا على متن الخطابات السلفية رغم سنوات من الحضور والانتشار والكتابة والظهور وتقديم البرامج؟ وإذا بدأنا بالسؤال الثاني فإن متابعة حلقات عيسى، ولو على خفيف، تكشف عن مستوى "رديء" من الخدمة المعرفية، لا علاقة له بتوجّه عيسى أو أفكاره، إنما بخفته في طرح هذه الأفكار، وضعفه في "مذاكرة" موضوعه واختيار أغلب ضيوفه، إلى درجة أنه حين تورّط، مرة، على سبيل الخطأ، واختار ضيفا "مختصا"، وظن أن توجّه الضيف السياسي سوف ينعكس، بالضرورة، على أفكاره الدينية، وهو ما لم يحدُث، وجد نفسه أمام "فضيحة" على الهواء، ولم تفلح كل محاولات "الفهلوة" و"التقفيل" على الضيف في احتوائها، فإذا به ينهي الفقرة في حدّة، ثم يعود لينشرها على يوتيوب (بعدها بعامين!) بعنوان مراوغ يصف ما حدث بأنه مجرّد تصحيح لـ "غلطة" على الهواء (حلقة "الفرقة الناجية" - فقرة رضوان السيد).
من هنا، يمكننا العودة إلى السؤال الأول: لماذا يجد إبراهيم عيسى من يسمعه، أو يهدّده، على ضعف ما يقدّم؟ والإجابة أنه لا بديل. .. يحدُث أحيانا أن يقدّم أحدهم سلعة رديئة. وعلى الرغم من ذلك، تجد من يشتريها، وقد تروج، ذلك لأن "السوق عطشان"، ولا بضاعة تلبي احتياجاته، قديم لا يموت، وجديد لا يُراد له أن يولد. من هنا يمر إبراهيم عيسى وغيره من "الحلنجية"، من ثغرات استبداد المؤسسة الدينية بأبنائها (أو غيرهم) من المختلفين الجادّين، وإصرارها، بدورها، على الحل الأمني، والقياس مع الفارق، ومع الأسف.