قد تتأخّر لكنها تأتي
اقتحم الجنرال أوغستو بينوشيه، في 11 سبتمبر/ أيلول 1973، القصر الرئاسي في تشيلي، وقتل الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي. حكم بيونشيه تشيلي 17 عاماً بقبضة حديدية. وفي 1990، تراخت تلك القبضة، ورفض مجلس النواب أن يمدّد الحكم للدكتاتور، فانسحب بينوشيه بنفوذه إلى منصب قائد الجيش، ليكون حاكماً بلا مقعد رئيس. وبعد ثماني سنواتٍ أخرى، اضطر إلى أن ينزوي في منصب عضو مجلس نواب، مع حصانةٍ مدى الحياة. لكن أرواح أكثر من ثلاثة آلاف مواطن تشيلي كانت تطارده، ففوجئ في عام 2002 بتعديلات دستورية تجرّده من الحصانة، فقدّم طعناً أن حالته الصحية لا تؤهّله للخضوع لمحاكمة. لكن القضاء التشيلي في عام 2004 قرّر أن السفّاح المتقاعد لائق طبياً وذهنياً للمثول أمام المحكمة. بعد ثلاثين سنة من السلطة والمراوغة وقف بينوشيه أمام المحكمة، ليواجه تهماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. مات بينوشيه عام 2006، وهو قيد الإقامة الجبرية.
في مدينة ود مدني جنوب الخرطوم، حكمت المحكمة، يوم الخميس 2 فبراير/ شباط الحالي، على المدان ن. الصادق بالإعدام شنقاً بتهمة قتل أحد كوادر الحزب الشيوعي السوداني، عبد المنعم رحمة. وقعت الجريمة عام 1994. كان نظام الحركة الإسلامية السودانية يحكم منذ خمس سنوات. وكان البطش عنوان حكمه. اعتقل جهاز الأمن الكادر الشيوعي من فراش مرضه. كان يعاني من الملاريا، فلم يقاوم. أخذوه، وبدأت "حفلة" التعذيب المعتادة. لم يتحمّل المعتقل المنهك ففاضت روحه بين يدي جلاديه. أسرع به منسوبو جهاز الأمن إلى المستشفى، وأمروا الطبيب أن يستخرج شهادة وفاة تتهم الملاريا بالقتل. قدّمت أسرته بلاغاً جنائياً، لكن أي عدالة ممكنة في عهد الحركة الإسلامية السودانية؟ تم تعطيل البلاغ. حتى سقط نظام عمر البشير في إبريل/ نيسان 2019، فبادرت الأسرة إلى تحريك إجراءات جنائية جديدة.
هذه المرّة، وبعد 29 عاماً لم يجد ضابط الأمن ن. الصادق من يحميه. كان الصادق قد تنقّل في وظائف عديده خلال السنوات التي تلت جريمته. منها منصب الأمين العام لمجلس تنظيم مهنة المُحاسبة والمُراجعة التابع لوزارة مجلس الوزراء. كان آمناً لا يخشى إلا غضبة رؤسائه. أما الله، أو العدالة، فكان يظنّ أنه في منجىً منهما.
تبدو السلطة في إقبالها مبهرة، وأبدية، لكنها حين تولّي يسقط حتى دكتاتور جبار مثل بينوشيه قيد الإقامة الجبرية. ... لم يكن هذا حكم الإعدام الأول الذي توقِعه المحاكم السودانية عقب سقوط نظام البشير على أفراد ومنسوبي أجهزة أمنية بتهمة القتل. ورغم أن أياً من الأحكام لم يُنفّذ بعد، إلا أن العظة مدوّية الصوت، حتى لتُسمِع من يدّعي الصمم.
قد تتأخّر العدالة. لكنها، حتماً، تأتي. وهي حين تنزل لا تتحاشى الصغار الذين يزعمون أنهم كانوا فقط ينفذون الأوامر. بل هم عادة أول من يدفع الثمن. فهم ليسوا أعوان الظلمة، إنما هم الظلَمة أنفسهم، بحسب تعبير الإمام أحمد بن حنبل الشهير، عندما سأله سجانه "هل أنا من أعوان الظلمة؟" فقال ابن حنبل "أعوان الظلمة من يأخذ شعرك، ويغسل ثوبك، ويصلح طعامك، ويبيع ويشتري منك. فأما أنت فمن أنفسهم".
ينتظر سودانيون كثيرون عدالة متأخّرة، تضمّد جراح جرائم قتل وتعذيب وتنكيل ارتكبت ضدهم. ورغم مرور ثلاثين عاماً من حكم الحركة الإسلامية السودانية، وثلاث سنوات بعد سقوط حكمها، إلا أن درس بينوشيه يمدّهم بالصبر، فهم يعرفون أن ما تأخّر آتٍ لا محالة.