قصة حقيقية تقريباً
فيما كانت تسقط تدريجياً في النوم، ظلّ المحاضر يؤكّد، عبر قناته على "يوتيوب" أنّ الإنجاز مهما بلغت بساطته، فإنّه يمنحنا شعوراً بالسعادة، ويساعدنا على التخلص من أعراض الكآبة. ونصح متابعيه أن يبدأو نهارهم بتنفيذ مهام بسيطة، مثل ترتيب السرير أو غسل الصحون، أو القيام بنزهة صباحية، قائلاً إنّ الإنجازات الصغيرة سوف تؤدّي إلى إنجازات أكبر بالضرورة، وهذا ما فعلتْه بالضبط حال يقظتها.
اعتادت في السنوات الأخيرة أن تغفو على وقع صوتٍ بشري؛ محاضرة، كتاب مسموع، بعدما استغنت عن مصاحبة الموسيقى الهادئة لغفوتها، لأنّها وجدت في الأصوات الإنسانية وحشة أقل! نهضت من سريرها بسرعةٍ، في محاولةٍ للتخلّص من التكدّر الصباحي الذي بات ملازماً لمزاجها المتقلب، رتّبت السرير وغسلت الصحون، تماماً كما اقترح المحاضر المقبل على الحياة لأسبابٍ تخصّه. قفزت مذعورةً، حين انطلق صوت إطلاق الرصاص من البيت المجاور، طلقات متتابعة مدوّية خالطتها صيحات فرحٍ وزغاريد. استنتجت أن نتائج الثانوية العامة قد أعلنت. تخلّت عن طقسها الصباحي بتناول القهوة في شرفتها المكتظّة بالزهور، خشيت أن تستقر في رأسها رصاصة طائشة، فتصبح شهيدة الفرح الهمجي الذي اكتسح مدينتها عمّان، انطلقت رصاصاتٌ أخرى من بيت آخر. كتبت منشوراً على صفحتها في "فيسبوك" تدين فيه عادة إطلاق الرصاص المصاحبة لمناسبات الأردنيين السعيدة. أحسّت أنّ عليها أن تؤدّي واجبها مواطنة صالحة، لا تكتفي بالثرثرة غير المجدية على صفحات التواصل. هاتفت الشرطة، ومن دون أدنى تردّد، بلّغت عن الجيران عن مطلقي الرصاص الأرعن. زوّدت الشرطي المناوب بالعنوان واضحاً. قال لها بلهجة يائسة: "والله يختي مش ملحقين شكاوي، ما حدا بيرد، عملنا حملة توعوية واسعة، الكلّ مطنش. ما بنقدر نحطّ شرطي على باب كلّ بيت فيه ناجح بالتوجيهي".
أحكمت إغلاق النوافذ، وألغت كلّ برامج الخروج، وأخذت قراراً بالاعتكاف والذهاب في غيبوبة درامية في متابعة أحداث مسلسل "لعبة العروش" فانتازيا تاريخية ضخمة الإنتاج موسيقاه ساحره، ونصّه فلسفي تأمليّ عميق، يطرح أسئلة الوجود. ويحدث الموت فيه بشكل مجاني. في المساء، هدأ إطلاق الرصاص، لم تظهر أيّ سيارة للشرطة في الجوار. عمّ الهدوء على نحو مباغت. يبدو أن الجماعة تعبوا جرّاء الفرح الشديد. وجدتها فرصة مواتية للهرب من الصخب المرتقب ليلا. توجّهت إلى جبل اللويبدة مكانها المفضل. التقت بصديقة، مشت بصحبتها ساعاتٍ في الأزقة والحارات. لاحظتْ أنّ المقاهي فارغة، على غير عهدها في الجبل الذي امتاز بصبغة فنية ثقافية سياحية، حتى أنّ الشوارع لم تكن مزدحمة كالعادة. كان طلاب أجانب يتناولون عشاءهم في المطاعم الشعبية في المكان. تبادلت وصديقتها التذمّر والشكوى من سلوكيات الناس المتخلفة في أفراحهم. اتضح أنّ الصديقة هاربة أيضاً من ضوضاء مكان سكنها.
حين وصلت إلى الحي في ساعة متأخرة، كان الازدحام على أشدّه، عشرات من الجيران تجمهروا حول سيارة إسعاف جاءت لتأخذ جثة شاب عشريني، كان في طريقه إلى منزله، حين استقرّت رصاصة طائشة في جسده فأردته قتيلاً على الفور. كانت الأم الثكلى تصرخ، بشكل هستيري، في دعواتها على قتلة ابنها الوحيد "الله ينتقم منكم، الله لا يوفقكم". سارت سيارة الإسعاف ببطء بين الجموع التي أخذت تحوقل وتستغفر وتترحم على الفتى (راح بشربة ميّة). اصطحبت عصبة من النساء الأم النائحة إلى داخل البيت، وسرعان ما انطلق صوت عبد الحليم من أحد البيوت البعيدة، مردّداً ببهجة كبرى "وحياة قلبي وأفراحه".