قصة قتل تكنوقراطية
انضم وزير الداخلية اللبناني، محمد فهمي، إلى لائحة الشخصيات العامة في هذا البلد المعجون بـ"السلاح زينة الرجال"، التي تجاهر مباشرة على الهواء، بأنها قَتَلت بشراً. الإعلان لم يكن بأي شكل تعبيراً عن مياكولبا، ولا اعترافاً ولا ندماً ولا نقداً ذاتياً، بل أقرب إلى التباهي وهدفه سياسي، تأكيد الولاء، ولاء الوزير لمن جعله وزيراً، أي رئيس الجمهورية ميشال عون. تحاول أن تقرأ السيرة الذاتية الرسمية لفهمي، فيطالعك الموقع الإلكتروني للوزارة بجواب يشبه حال البلد: "هذا الموقع لا يمكن الوصول إليه"، أي أن الموقع خارج الخدمة. عندها، تعود إلى بعض مما كُتب عن الرجل عند تعيينه مطلع العام الحالي بصفته وزيراً تكنوقراطياً، نزولاً عند رغبة الجمهور المنتفض والذي تهيّأ له أن الحلّ للنظام اللبناني الطائفي الفاسد يكمن في اللاسياسة، في اللاأحزاب، في شعبوية تطهيرية تستنجد بأهل "التخصص" و"المجتمع المدني" من كارهي السياسة والأحزاب والنقابات. عقم في التفكير هو من بين أبرز أسباب فشل انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول في تحقيق أي نتيجة سياسية ملموسة بعد ثمانية أشهر ونصف الشهر على ولادتها. تبحث عما كُتب عن محمد فهمي لدى تعيينه في الوزارة الأهم في لبنان كون شاغلها يحتكر الأمن وأدواته وأجهزته وآلات القمع والتنكيل والتنصت، وتقع على ما قد يكون أفضل ما كُتب في حينها، بتوقيع يوسف بزي في موقع "المدن"، وقد حذّر باكراً من بروفايل الوزير: هو أحد منفذي سياسة الوصاية السورية على لبنان، كعميد سابق في الجيش ومسؤول مخابراتي في الأجهزة الأمنية التي لطالما كانت اليد الضاربة للنظام السوري في أبشع حقبات وصايته على هذا البلد في عهد إميل لحود حتى انسحابه عام 2005، وهو المقرب من علي المملوك ورستم غزالي وبقية سيئي الذكر ممن يسميهم اللبنانيون "حكام عنجر".
لكنك أمام المقابلة السوريالية التي أجرتها قناة المنار قبل أيام مع الوزير، تكتشف، على لسان فهمي نفسه، الشق المكمِّل للسيرة أو بالأحرى بدايتها الوجدانية مثلما يسميها الرجل. شيء من قصصه زمن الحرب الأهلية، وفصول أخرى عن مُلهم فهمي، أي ميشال عون، وكيف ينتقي الأخير رموز حكمه، وهو الذي تربطه مع وزيره "علاقة وجدانية" عمرها عقود تعود إلى زمالتهما في الجيش. في مقام "وجداني" مثلما سماه فهمي أيضاً، خلال مقابلته التلفزيونية، يُبحر بصوت كله اعتزاز لا يليق بأجواء الوجدانية في العادة، لإخبار مشاهديه، بعد أن يعتذر منهم، كيف أنه "في عام 1981، حصل معي إشكال مع حزب فاعل، فقتلتُ شخصين". يتفجع محاوره عماد مرمل ويطلب منه أن يكرر ذكر ماذا فعل، فيستجيب الضيف بكل سرور: "قتلتُ شخصين، فاستدعاني العماد ميشال عون وقال لي: ليك (انظر) يا محمد، طول ما فيّي نفس (طالما أنا على قيد الحياة) ما حدا بيدقّك بشوكة (لن يؤذيك أحد)". يقاطعه تصفير مقدم البرنامج، انبهاراً أو تفاجؤاً أو تعبيراً عن إثارة تملّكته. وبوجدانية مؤثرة أيضاً، وبتواضع تكنوقراطي، يهنئ فهمي نفسه على أنه "بالصدفة أنا وفيّ"، لذلك فإنه طالما فيه هو نَفَسٌ... سيبقى مديناً للحماية التي وفرها عون له ولعائلته، والكلام طبعاً للوزير حرفياً.
عهد القتل التكنوقراطي يتشابك مع الفساد التكنوقراطي والطائفية التكنوقراطية والتجويع التكنوقراطي، فلا بأس بكل هذا طالما أن معدنه تكنوقراطي يشتم الأحزاب صبحاً ونهاراً ومساءً، لكن بتهذيب. والتهذيب هو شعار المرحلة في لبنان كرّسته أوامر حسن نصر الله في تبرير معاداته انتفاضة أكتوبر لأن ناسها يشتمون الزعماء والمقامات. مزحة سمجة شبيهة بتبريره الانخراط في الحرب على الشعب السوري مطلع عام 2013 لحماية مزارات دينية في سورية، ولحماية لبنانيين يقيمون في قرى متداخلة بين الأراضي اللبنانية والسورية.
بعد دقيقتين من التباهي، ربما يكون وزير الداخلية تنبه إلى فجاجة ما ينطق به، فاستدعى فوراً السلاح الثقيل لتبرئة ذمته: لا علاقة لي بأي حزب، لا قديماً ولا حديثاً، ولا هو عضو في حزب ميشال عون حتى. سامحوه، فقد كان قتلاً تكنوقراطياً.