قلاع العولمة المحصّنة
في مدينة صغيرة وادعة فرنسية، وفي حديقةٍ عامة، ارتكب لاجئ سوري، يبلغ الثلاثين من العمر، جريمة نكراء وذلك باعتدائه على أطفالٍ رضّع بالسكين أمام أعين أهلهم. وأدّى هذا العمل إلى إصابة عدد منهم بجراح خطيرة للغاية. وقد ألقت الشرطة بمساعدة مواطن جريء القبض على المجرم.
حتى الآن، عملية اعتداء جرمية قبيحة تستهدف أطفالاً في حديقة عامة، ومن المفروض أن يتألم من تابعها بعمق، ومن ثم ينتظر نتائج التحقيق مهنئًا النفس باعتقال المجرم حيًا سعيًا إلى محاولة فهم دوافعه، وليس سعياً إلى تفهُّمِها حتمًا. وفي أغلب الحالات، يُقتل هؤلاء المعتدون في أثناء محاولة القبض عليهم لعنفهم الشديد وإصرارهم على استخدام السلاح إلى آخر لحظة. وبقتلهم، يختفي معهم السبب والدافع، حيث تبقى الحيرة سيّدة الموقف لتتوالى بعدها الاستنتاجات الشخصية المشوَّهة والتلفيقات غير المسنودة، ما يساعد على ملء الصحف الصفراء ووسائل التواصل الاجتماعي على أنواعها، كما وشبكات التلفزة التي تبثّ الأخبار بشكل متواصل.
إثر حادثة من هذا النوع، العقل والمنطق يتطلبان إذًا أن يترقب العامة، المهتمون بالقضية والمصدومون بتفاصيلها، نتائج التحقيق الأولية، قبل أن يُسهبوا في التحليلات، ويُغدقوا في الاستنتاجات المغلوطة التي تستند إلى ردود فعل عاطفية، غالبًا ما يستقيل العقل من مسارها. فما بالنا إذًا بالباحثين المتخصّصين وبالسياسيين الذين عليهم، إضافة إلى الواجب الأخلاقي إن وجد ووجدت الأخلاق في ذاتها، والمهني، إن أحسنوا ما امتهنوه، أن ينتظروا النتائج الأولية للتحقيق أيضًا، ويستفسروا ويتقصّوا ويجمعوا كل الأدلة الممكنة والقرائن المتاحة قبل أن يدلوا بآرائهم وينشطوا في استنتاجاتهم ويبرعوا أو يفشلوا في إسقاطاتهم. وذلك لأنهم، وبكل بساطة وإيجاز، من حملة المسؤوليات، ولديهم دور توجيهي وإرشادي، وربما في بعض الأوقات، تحريضي. إلا أن جزءًا من النخبة الفرنسية، المتوتّر سياسيًا وفكريًا في السنوات الأخيرة نتيجة تقاطع عوامل سياسية وثقافية وتاريخية لا مجال للتوسّع في تفاصيلها الآن، آلى على نفسه هذه المرّة أيضًا أن يكتسب مصداقيًةً لطالما غابت عنه وغاب عنها، ليهرع إلى اجتراع العبارات الصادمة والمتطرّفة بحق الأجانب، واللاجئين منهم خصوصًا.
هرع جزء من النخبة الفرنسية، المتوتّر سياسيًا وفكريًا، فور الاعتداء، وقبل ظهور النتائج الأولية، إلى اجتراع العبارات الصادمة والمتطرّفة بحق الأجانب، واللاجئين منهم خصوصًا
الباحث المتخصّص في كل شيء يتعلق بالمنطقة العربية وبالعالم الإسلامي، وهذا أمرٌ غير جادّ، ولكنه منتشر في الأوساط الإعلامية الفرنسية. أسرع الجغرافي فابريس بالانش، وربما في اللحظات التي تلت وقوع الجريمة، إلى وضع خريطة سبق أن نشرها موضّحًا الطرق التي يسلكها برأيه غير المتواضع أبدًا "الجهاديون" انطلاقًا من سورية والعراق باتجاه أوروبا، وكتب عبارةً تنمُّ عن عنجهيةٍ علميةٍ غير مرتجاة، قائلًا "أمام مقتلة آنسي (المدينة الوادعة إياها)، خريطة بسيطة أفضل من الخطابات السياسية الطويلة لفهم الموضوع". هذا الباحث والأستاذ المرموق الذي تلجأ إليه كل وسائل الإعلام الفرنسية، وحتى العربية، لتحليل أوضاع المنطقة الإسلامية، والذي زار سورية مرارًا بعد ثورة شعبها وروّج انتصارات الجيوش التي ما فتئت تقتل المدنيين فيها، لم تمهله الحكمة بأن ينتظر لحظاتٍ ليتبيّن أن القاتل المجرم ليس مسلمًا من "إيّاهم". لقد أراد تصدّر المشهد الإعلامي بتسرّعه هذا وهو في ذلك يُثبت هبوطه العلمي إن لم نقل أكثر. وكان قد سبق للباحث المخضرم، وفي زمن مضى، وأمام سؤال صحافي عن قصف مدنٍ سوريةٍ وتدميرها، قد أجاب بأن "من الضروري أحياناً أن تدمّر المدن ليخرج الإرهابيون كما حصل مع دريسدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية".
ينتشر هذا الباحث وأمثاله كالنار في الهشيم في مناخ من الاستقطاب السياسي المُفجع حول مسألة الهجرة واللجوء. مناخٌ تُغذّيه تصريحات مسؤولة وغير مسؤولة تحاول تصدّر المشهد جمعًا لأصواتٍ انتخابية أو بحثًا عن دورٍ ما على خشبة المسرح السياسي، فقد سمعنا، أخيرًا، عبارة "نزع الحضارة" على لسان ممثلي اليمين المتطرّف العنصري، والتي سرعان ما تبناها الخطاب السياسي الرسمي للإشارة إلى دور الأجانب (يُقصد بهم المسلمون حتمًا) في انتزاع المكوّن الحضاري من المشهد الفرنسي، وذلك تعليقًا على جرائم قتل واعتداءات لم تسجل دائمًا، حتى يثبت العكس، بحقّ أجانب مسلمين.
ولّى زمن القلاع المحصّنة وصار العالم، كما أراد له أرباب الرأسمالية ربما، قريةً صغيرةً
بالطبع، سيغيب عن أذهان جميع من سبق ذكرهم الحديث عن ضرورة المتابعة والمعالجة النفسية لضحايا الحروب، والذين عاشوا أهوال المجازر والنزوح، سعيًا إلى إدماجهم في مجتمعات اللجوء والاستفادة من طاقاتهم. لقد شعر جميع من تصدّر المشهد المخزي الذي أعقب وقوع الجريمة، والذين سارعوا إلى توجيه أصابع الاتهام إلى الهجرة والمهاجرين من المسلمين "المختلفين حضارةً وقيمًا عنهم"، بالوجل لحظاتٍ عندما علموا بدين المجرم، فلم يُسقط في يدهم ليُسارعوا ويُعيدوا إنتاج ترّهاتهم مع عباراتٍ مختلفةٍ تشمل غير المسلمين من أهل الجنوب. إنهم يكادون يسعون إلى العيش في قلاعٍ محصّنة.
ولّى زمن القلاع المحصّنة وصار العالم، كما أراد له أرباب الرأسمالية ربما، قريةً صغيرةً. فهل يريده بعضهم قريةٍ صغيرةً مليئة بالمآسي والمجاعات، تتوسّطها قلعة حصينة تعجُّ بالثراء والسعادة؟ فليكن، لكن جموع البسطاء المظلومين سيجتاحون، عاجلًا أو آجلًا، قلاع الثراء المنفرد والمتحصّن، ما لم يتواصل طرفا القرية.