كأس شاي مع القراء
يعتقد كاتبُ هذه الأسطر أن الصيغة الأفضل لزاويةٍ تُنشر على الصفحة الأخيرة من صحيفة يومية هي "الدردشة"، فيبدو الأمر كما لو أن الكاتب والقارئ جالسان معاً في مقهى، أو كافيتيريا، يشربان شاياً ديرياً (من دير الزور) ثقيلاً، ويتداولان في أمور الحياة. ولكن الكاتب، إيايَ أعني، ينسى ذلك، أحياناً، ويخوض في أمور نظرية، عسيرة الهضم، مثلما حصل إثر نشر زاويتي "الحكم العثماني ليس استعماراً" في "العربي الجديد" (6/ 9/ 2020).
ثمّة أمر جدير بأن ندردش حوله، ملخصُه أن شريحة واسعة من متابعي الصحف، في هذه الأيام، يتعاملون مع مقالةٍ منشورة في صحيفة سعودية، أو إماراتية، أو قَطَرية، وفق فرضية أن كاتبها طرطور، إمَّعة، لا قيمة له، ولا رأي، ولا تاريخ، وإذا حمي المزاد لا يُباع بـ هَلَلِه.. وبناء على هذه النظرة العجيبة يقرأون الزاوية، ويقرّرون أنها كُتبت لإرضاء الدولة التي تصدر من داخلها، أو بتمويلها. أمثلة على هذا ردود أفعال على مقالتي المذكورة بعد مشاركتها على "فيسبوك" و"تويتر"، أولُها أنني، برأيهم، كتبتُها مادحاً الدولةَ العثمانية، مبعداً عنها صفة الاستعمار، لكي ترضى عني قطر وتركيا! لماذا ترضى قطر؟ لأن الدولة العثمانية التي امتدحتُها إسلامية الطابع. ولماذا ترضى تركيا؟ لأنها، برأيهم، دولة إسلامية، (مع أنها علمانية بكل معاني الكلمة) إضافة إلى أنني امتدحتُ تاريخَها الإمبراطوري، وهذا سيجعل قادتها ينبسطون ويكيفون ويفكرون في إعادة الأمجاد التليدة، وهذا كله، تخيّل، سيحصل من جراء زاوية تتألف من خمسمئة كلمة، منشورة على الصفحة الأخيرة من صحيفة يومية. (كان الممثل المصري المرحوم يوسف بيك وهبي يقول، في مثل هذه الحالة: يا للهول).
ثمة أمر طريف آخر لدى هذه الشريحة من المتابعين، أنهم لا يقرأون المقالة التي يشمّرون عن سواعدهم وينفخون عضلاتهم لكي يوجهوا لها اللكمة القاضية، فمنهم مَن يكتفي بقراءة عنوانها فقط، وآخرون يتصفحونها بسرعة، ليأخذوا منها ما يكفيهم لتوجيه اللكمة، وفريق ثالث يعتمد على أصدقائه الأذكياء في تأمين ما يلزمه من رؤوس أقلام عن الموضوع، جرياً على طريقة الرجل الذي طَعَن يهودياً، وسأله القاضي: لماذا طعنته؟ قال لأنه يهودي، واليهود قتلوا سيدنا المسيح.. قال القاضي ولكن هذه المسألة مضى عليها 2000 سنة، قال: أنا لم أعلم بذلك إلا حينما حدّثني رفيقي عنها قبل قليل.
لو أن المعلقين قرأوا المقالة بتأنٍ، لما بدأوا هجومهم عليها وعليّ أصلاً، فهي مجرّد قراءة في تاريخ مضى، واستنتاج قلت إنه قد يصح وقد يخطئ، وقد جاء في إحدى فقراتها، حرفياً، أنني "لا أنظر إلى الدولة العثمانية أنها جيدة، وحضارية، بل ربما أعاق قيامُها قبل 500 سنة احتمالَ أن تذهب بلادُنا في مفترق حضاري آخر". وأضيف الآن أن الـ 400 سنة العثمانية مثلت حالة سُبَاتٍ لتركيا والدول التي كانت تحت حكم السلطنة، على السواء، وكانت، في بعض مراحلها، سيئة. وبحسب ما جاء في كتاب "سورية والعهد العثماني" للمؤرخ يوسف الحكيم فـ "إن انتهاء دور "المُتَسَلِّمين" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدء التنظيم الإداري، قد أشعر الناس بالحرية". ويوسف الحكيم يورد في هذا الكتاب حكاية رهيبة جرت أيام "المتسلمين"، أن متسلماً أمر أتباعه، في كتابٍ خطّي، أن يذهبوا لمحاربة الأشقياء، ويأتوه برؤوس عشرة منهم، فنفذوا الأمر، ولكنهم أضاعوا رأساً في أثناء عودتهم في الطريق، ولم يكن ممكناً تعديل صيغة الكتاب الخطّي من عشرة إلى تسعة، فاضطروا أن يقتلوا إنساناً بريئاً ليكملوا به العدد.
أقول للقارئ الذي أجالسه الآن، إنني لست مؤرّخاً، ولكنني أطرح في زاويتي الأسبوعية أسئلةً قد تفيد في إيجاد حوارات وطنية وحضارية وإنسانية مفيدة، وإن لم تفد فهي تسلي صديقين يشربان الشاي الديري الثقيل في مقهى.