كرسي هزّاز في الشرفة
سوف تنكمش على نفسك في أسىً، وسوف تضرب كفّيك ببعضهما يأساً، فقد مضى من عمرك الكثير ولم تحقق حلمك. وحلمك ليس مستحيلاً، ولكنك لم تكن تجرؤ على أن تخبر به أحداً لكي لا يسخر منك. في البداية، وفي البيت الأول، حيث كنت تضع قدمك لتبدأ حياة جديدة مع شريكٍ تمنّيت أن يكون لديك شرفة مطلة على الحديقة المنزلية. وحين أخبرته بتلك الأمنية وحمرة الخجل تعلو وجهك البريء، قوبلت تلك الأمنية باستهجان؛ لأن تكلفة إنشاء شرفة سوف تكون عاليةً مقارنة بميزانية مرصودة لبناء بيتٍ يفي بمتطلبات الحياة اليومية، على أساس أن الشرفة نوع من البذخ أو الترف.
ظلّ الحلم الصغير يراودني كل صباح، ولكني توقفت عن البوح به لأحد، ولأنني من عشاق الطبيعة والخضرة، وأجد متعةً حين أملأ صدري في الصباح بالهواء النقي، فقد كنت أحلم بأن أفعل ذلك، وأنا أقف في شرفة معلقة في الهواء، وأن أدلّي ذراعيّ منها، وأنا أرفعهما عالياً نحو السماء، وكأني أشكر الربّ في صلاة صامتة فجرية، وكنت أحلم بأن تتدلّى من أطرافها النباتات المتسلقة، وكأنها رسالةُ أن الحياة ليست قاصرة على مكان، وأن عليك أن ترحل لكي ترتاح. وحلمت بقفصٍ من العصافير يتدلى من سقفها، وأسمع لغة زوجين من جنسٍ آخر في ودّ لا ينقطع. لكن ذلك لم يحدث، خصوصاً أنني قد نظرت بعين خيالي لفراغ شرفتي المتخيّلة، ورأيت أنني بحاجة ماسّة، لكي أضع على أرضيتها كرسياً هزّازاً من الخيزران، وطالما رأيته في محالّ بيع الأثاث، فنقلته ببصري إلى شرفتي، وتخيّلتني أتأرجح فوقه وفي يدي كتاب، وهناك حبيبٌ يعود متلصّصاً ويُغمض عينيّ بكفيه من خلفي، ويطلب مني في دعوة صامتة أن أخمّن من يكون.
لم أجرؤ على أن أكرّر حلمي بين يدي أحد وانكمشت عليه. وبذلك اتسعت هوة صغيرة بيني وبين شريك حياتي، وفي الحقيقة، كلما كبرت كان حلمي يكبر معي، وصرت على يقين بأن الأحلام الصغيرة التي لا تتحقق تحفر ندباً في القلب والروح، وتورّث حسرة تخبر الإنسان أنه فاشل، أو أنه يعيش كيفما اتفق، أو كيفما أراد له الآخرون. وها أنا يمرّ بي العمر ولم أجرؤ على البوح بحلم صغير بأني كنت أرغب في كرسيٍّ هزّاز في الشرفة.
يوماً بعد يوم، وجدت أن معظم البيوت من حولي قد تخلّت عن الشرفة ودورها الأساسي، أو دورها التخيلي الذي رسمته، وباتت مخزناً لـ"كراكيب العائلة"، ولم يعد هناك متّسع للخضرة ولا للهواء النقي، وحلّ مكان الكرسي الهزاز الذي كنت أحمله في كل مرّة من محلٍّ مختلف لبيع الأثاث المنزلي. وفي مرّات أخيرة، صرت أحمله، بخيالي بالطبع، من صفحات على موقع "فيسبوك" قائماً من البلاستيك، مخصّصاً لنشر الملابس المغسولة، وأصبح هذا القائم الذي يُبسط ويُثنى حسب الحاجة سمة شرفات البيوت العربية، إضافة إلى حزمٍ من الثوم والبصل، تقليداً للفراعنة الذين اعتقدوا بقدرتهما على منع دخول الأرواح الشرّيرة البيوت. وإلى جانب هذا القائم البلاستيكي كثير من الأدوات المخزنة، فتحوّلت الشرفة إلى ما كان يعرف بـ "الكرار" وهو المخزن الملحق بالبيت القديم، حيث تُخزَّن المواد التموينية، وخصوصاً ما يُستغَل في فصل الشتاء، ومعظم هذه المواد كانت من صنع يد الأم الماهرة المدبرة.
ولغياب بهجة الشرفة، نشرت صورة قبل أيام لبعض العمارات القديمة في مدينة الإسكندرية، وذيلت الصورة بتساؤل عما إن كانت تلك البيوت في اليونان مثلاً؛ وذلك لأنها بقيت محتفظةً بطابع الشرفات الجميلة التي تطلّ على البحر مباشرة، وحيث كان مهندسو الزمن الجميل يحرصون على أن تشغل الشرفة ما لا يقل عن 10% أو 15% من المساحة الكلية للشقة، لتحقيق جمالية للمبنى وفوائد صحية للإنسان، فكيف إذا ما احتوت على كرسي هزّاز، يبدو أنه سيظلّ سراً ساذجاً في قلب امرأة إلى الأبد.