كريم خان يمهّد لتبرئة إسرائيل وإدانة حماس
رفضت منظمات حقوقية فلسطينية الالتقاء بالمدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، خلال زيارته الأراضي الفلسطينية الأسبوع الماضي، تعبيرا عن استيائها من لقائه بالناجين الإسرائيليين من عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب عزّ الدين القسام، الذراع العكسرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) يوم 7 أكتوبر الماضي. واستنكرت صمته المطلق تجاه نداءات وجهتها الدول والمنظمات غير الحكومية وكبار الخبراء في دراسات الهولوكوست، وخبراء الأمم المتحدة، بأن يكسر صمته، ويحذّر إسرائيل من ارتكابها أو احتمال ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.
منذ توليه منصب المدعي العام بالمحكمة الجنائية في يونيو/ حزيران 2021، لم يستجب خان لطلبات استقبال ضحايا فلسطينيين ومحاميهم، واكتفى بلقاء عابر وشكلي لبعض عائلات ضحايا فلسطينيين في الضفة الغربية في مكتب رئاسة السلطة الفلسطينية ولقائه محمود عباس. وقبل زيارته إسرائيل وبعدها، لم يُحاول خان، هو ومحققو المحكمة، التواصل مع الناجين من الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزّة الذين جرى إجلاؤهم إلى القاهرة للاستشفاء. في مقابل هذا الإصرار على تجاهل الضحايا الفلسطينيين، أظهر المدّعي العام حماسةً في الترحيب بعائلات الضحايا الإسرائيليين الذين استقبلهم الشهر الماضي (نوفمبر/ تشىرين الثاني) في مقر المحكمة الجنائية في لاهاي، ثم هرول إلى إسرائيل، ليقابل المزيد من الضحايا ويدين الجرائم المنسوبة إلى حركة حماس، ويصفها بأنها لا تمت إلى الإسلام بصلة.
بدأت تتضح ملامح انحياز خان لإسرائيل شيئا فشيئا، وعلى الأرجح سيعمل على تبرئة إسرائيل ويسعى إلى إدانة "حماس"، استنادا إلى شرط تكاملية المحكمة. ففي مقال نشر له بصحيفة الغارديان اللندنية يوم 10 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، تجرَّدَ خان من قرينة البراءة، إحدى أبرز مقوّمات المحاكمة العادلة التي تعتبر الشخص بريئاً ما لم تثبت إدانته. وتبنّى المزاعم والأكاذيب الإسرائيلية عن ارتكاب "حماس" جرائم حرق واغتصاب ضد إسرائيليين، وكتب: "لا يمكننا العيش في عالم يتم فيه تطبيع عمليات الإعدام والحرق والاغتصاب والقتل، أو حتى الاحتفال بها". ولم يُفوّت الفرصة لإطلاق حكم يخرج عملية 7 أكتوبر من سياق مقاومة الاستعمار الاستيطاني، ليضعها في سياق إرهاب باسم الإسلام، وكتب: "إنها أكثر الأعمال غير الإسلامية ولا يمكن ارتكابها باسم دين معناه السّلام". وتوعد خان المسؤولين عن تنظيم العملية وتنفيذها، وأكّد أنه على استعداد للعمل مع السلطات الإسرائيلية ومع أسر الضحايا في إسرائيل، لاستكمال الجهود المحلية وضمان تحقيق العدالة للمتضرّرين من "جرائم حماس".
كل شيء ممكن مع كريم خان، ثالث مدّع بالمحكمة الجنائية وأكثرهم انحيازا للغرب، وإسرائيل. المؤكّد أن "حماس" ستواجه تهما ثقيلة، وإسرائيل على الأغلب لن تحاكم عن جرائمها
وعقب زيارته إسرائيل، أصدر مكتب خان بيانا يصف فيه حركة حماس بأنها منظمّة إرهابية، ويستنكر استخدامها الرهائن دروعا إنسانية، ويقول إنه زار كيبوتسي بيري وكفار عزة، وموقع مهرجان نوفا الموسيقي في راعيم، وعاين مشاهد من "القسوة المحسوبة" Calculated Cruelty تمثل إحدى أخطر الجرائم الدولية التي تصدم ضمير الإنسانية. وهذه الإشارة جد خطيرة، إذ تحيل عبارة "محسوبة" إلى مسألة وجود نيّة مُبيّتة وتخطيط لجريمة دولية، والمعروف أن عامل وجود نيّة على ارتكاب جريمة تقصد تدمير مجموعة معينة كليا أو جزئيا، حسب تعريف نظام روما المؤسّس للمحكمة الجائية، واتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها (1948)، هو ما يميّز جريمة الإبادة الجماعية عن باقي الجرائم الدولية الأخرى التي تقاضيها المحكمة الجنائية الدولية: جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان. بعبارة أخرى، بدلا من التحقيق في نية إسرائيل المعلنة بغية إبادة إسرائيل للفلسطينيين وتنفيذها منذ 7 أكتوبر في غزّة، هل ينوي خان توجيه تهمة ارتكاب جريمة إبادة ضد الاسرائيليين، بما يتسم مع السردية الإسرائيلية التي تدّعي أنها ضحية "حماس النازية" والساعية إلى تدمير إسرائيل؟
كل شيء ممكن مع كريم خان، ثالث مدّع بالمحكمة الجنائية وأكثرهم انحيازا للغرب، وإسرائيل. المؤكّد أن "حماس" ستواجه تهما ثقيلة، في حين أن إسرائيل على الأغلب لن تحاكم عن جرائمها. ولقد تخلّلت خطابات خان إشارات إلى أن مبدأ تكاملية المحكمة يمنحها مخرجا مريحا من خطر العدالة الدولية ومحاكمها الانتقائية التي يصفها عزمي بشارة بأنها "محاكم خصصت للمهزومين". وفي مقاله في "الغارديان"، أثنى خان على مؤسّسات الإبادة الإسرائيلية، وزعم إن لدى إسرائيل جيشا محترفا ومدرّبا جيدًا، ولديها جنرالات ونظاما يهدف إلى ضمان امتثالها للقانون الإنساني الدولي، ولديها محامين يقدّمون المشورة بشأن قرارات الاستهداف خلال العمليات العسكرية، ولن يسيئوا فهم التزاماتهم، وإلا يجب أن يكونوا قادرين على مواجهة أفعالهم.
قادة "حماس" اليوم رهينة سلطة خان على انتقاء الجرائم الأكثر إدانة، وفي مقدّمتها عملية 7 أكتوبر، لإصدار مذكّرة توقيف بحقٍّ عدد منها
وعقب زيارته إسرائيل، قال خان إن إسرائيل تمتلك نظاما قويا يهدف إلى ضمان الامتثال للقانون الإنساني الدولي، ثم عبر عن استعداده للعمل مع السلطات الوطنية ذات الصلة، تمشّيا مع مبدأ التكامل الذي يوجد في صميم نظام روما الأساسي. ويحظر مبدأ التكامل بين المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية، على "الجنائية الدولية" النظر في الجرائم التي تدخل في اختصاصها، عندما تكون السلطات الوطنية وهيئاتها القضائية قادرة على مقاضاة رعاياها وراغبة في ذلك، كما أنّ نظام روما الأساسي يحظر المحاكمة على الجريمة ذاتها مرّتين.
يتّضح من تحرّكات خان في الأسابيع الماضية أنه يتجه بالقضية نحو ما سمّيتُه "السيناريو الأسوأ" في دراسة نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 28 يوليو/ تموز 2021 بعنوان "واقع المحكمة الجنائية الدولية وآفاق التحقيق في الجرائم المتعلقة بقضية فلسطين"، ذلك أن تنازل السلطة الفلسطينية للمحكمة الجنائية الدولية عن مقاضاة أفراد من "حماس" وفصائل أخرى قد تُوجَّه إليهم اتهاماتٌ لاحقًا، هو ما يجعل قادة "حماس" اليوم رهينة سلطة خان على انتقاء الجرائم الأكثر إدانة لها، وفي مقدّمتها عملية 7 أكتوبر، لإصدار مذكّرة توقيف بحقٍّ عدد منهم. أما إسرائيل، فلن تُحاكِم مواطنيها المحكمة الجنائية بحجّة أنها ليست دولة طرفًا في نظام روما الأساسي، وأنها تتوفّر على قضاء قادر على تحقيق العدالة لرعاياها، خصوصا وقد سبق أن أخضعت تل أبيب بعض ضبّاطها وجنودها لمحاكماتٍ صورية.
قد يصدم مآل كهذا لقضية فلسطين في المحكمة الجنائية كل الحالمين بتحقيق العدالة للفلسطينيين، لعدم إدراكهم أو رفضهم الإدراك أن العدالة الدولية خاضعة لعلاقة قوّة تتحكّم فيها الدول الغربية والنظام الغربي الذي قام على أنقاض الحرب العالمية الثانية، وأن قانون روما الأساسي يمنح مجلس الأمن سلطتين سياسيتين فوق كل سلطات المحكمة وقضائها غير المستقل: سلطة إحالة قضايا يقرّر المجلس أنها تهدّد الأمن والسلم الدوليين، وسلطة إيقاف التحقيق والمقاضاة في قضايا أخرى وتأجيلها.
قال خان إنه زار كيبوتسي بيري وكفار عزة، وموقع مهرجان نوفا الموسيقي في رعيم، وعاين مشاهد من "القسوة المحسوبة"
وما يجعل تحقيق العدالة للفلسطينيين شبه مستحيل اليوم أكثر من أي وقت مضى تربّع كريم خان على منصب المدّعي العام في المحكمة الوحيدة المخول لها محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية، بما في ذلك جريمة الإبادة. وتكمن خطورة خان على أي مؤسّسة عدالةٍ دولية، سيما التي يُتوخّى منها تحقيق العدالة للفلسطينيين، في ثلاثة عوامل مرتبطة ببعضها بعضا حبكت ملامح شخصيته المركّبة والمضادّة للعدالة، وفي مقدمة هذه العوامل افتقاده قيم العدالة وامتلاكه سجلا حافلا بانحيازه للدفاع عن كبار المجرمين الأفارقة ونجاحه في تبرئتهم باللجوء أحيانا إلى أساليب وإجراءات لا أخلاقية. ويتمثل العامل الثاني في أن كريم خان مرشّح الغرب الرافض أي تحقيق في جرائم إسرائيل، ويكفي استحضار أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بوريس جونسون، قد طمأن إسرائيل بشأن ترشيحه لمنصب المدّعي العام، مدعيا أنه "سيصلح المحكمة الجنائية" وأن بلاده ترفض تحقيق المحكمة في جرائم المرتكبة في فلسطين.
أما العامل الثالث، الذي لم يُسلَّط عليه الضوء بعد، فيخص انتماء كريم خان لجماعة "الأحمدية" التي يؤمن أتباعها بأركان الإسلام وبنبوّة الرسول محمد، ويؤمنون أيضًا بأن مؤسّسها، ميرزا غلام أحمد، هو "المسيح" و"المهدي الموعود، وكيف لعبت أحمديّة خان دورا في اختياره من مجلس الأمن رئيسا لفريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من تنظيم الدولة الإسلامية (يونيتاد)، كي يخلص التحقيق إلى تشبيه جرائم هذا التنظيم (داعش) بالنازية ومطالبة خان بمثولهم أمام محكمة تشبه محكمة نورنبرغ.
الخطير في احتلال خان منصب المدّعي العام للمحكمة الجنائية، وهو الناشط في جماعة الأحمدية، ترويجه سردية الأحمدية باعتبارها "الجماعة الإسلامية الرائدة في رفض الإرهاب"، والأكثر مناصرة لقيم السلم والحضارة، ما يفسّر تعاطيه مع حركة حماس باعتبارها "جماعة إرهابية" بدلا من حركة مقاومة، والخلط بينها وبين "داعش"، متبنّيا بذلك السردية الإسرائيلية والغربية عموما. موضوع أحمدية خان وانعكاسها على عبث خان بالقضية الفلسطينية سيكون موضوع مقالة مقبلة للكاتبة.