"كنّا عايشين"؟
... وهي عبارةٌ ردّدها كثيرون في بداية الثورة السورية قبل أن تتحوّل إلى مقتلة وتغريبة، كما، وبنسبٍ متفاوتةٍ، في بداية كل الثورات العربية التي سرعان ما تم إجهاضها بانقلاباتٍ عسكريةٍ أو سياسية، ساندها مستبدّون على رأس عملهم لم يتعرّضوا للخطر الماحق، كما غربيون ديمقراطيون لا يرون في بلدان الجنوب إلا التخلف المُستدام والجهل بالقيم الحديثة، ومنها الديمقراطية، التي لا يفهم من هم سواهم معانيها وكيفية تطبيقها، كما أقنعهم بذلك بعض مستشرقيهم وكثيرٌ من مستغربينا، كما مستبدّينا "المتنوّرين".
من المستحسن إذًا، والمشغول عليه فعلاً، أن يخضع هؤلاء القاطنون من دون مواطنة في جنوبٍ متخلّفٍ لمستبدٍّ "متنوّر" يتحكّم في البشر وفي الحجر، يكتب الماضي ويضع المستقبل، على أن يتبنّى قشورًا بارزة من حداثة الشمال المتقدّم وقيمه، دونًا عن الديمقراطية والتعدّدية بكل تأكيد. كما أن عليه أن يجعل من أوطان أهل الجنوب سدودًا منيعةً ضد الهجرة غير الشرعية إلى الشمال، ومخبرًا عمليًا للاستجواب والتعذيب لمن لا تسمح قوانين دول الشمال بالاستمتاع بممارستها. إضافة إلى ذلك كله، من المحمود أن تتشدّق هذه الدول وحكّامها المستبدّون بجملٍ يُستدلُّ منها بأنها ستحارب كل العصابات الإرهابية التي تُهدّد، أو يمكن لها أن تُهدّد، دول الشمال. في المقابل، يسمح لها هذا الخطاب المرضي عنه بأن تعتقل معارضيها وتصفّي منافسيها وتجعل من دولتها سجنًا بسماءٍ مفتوحةٍ. وأخيرًا وليس آخرًا كما يقولون، تُحافظ على استقرارٍ مصطنعٍ مهما كانت كلفته البشرية والأخلاقية عالية، لتبقى سوقًا مفتوحة للاستثمار والبيع والشراء.
كان يطيب إذًا لبعضهم من أصحاب نظرية الخنوع والتمجّد، كما والاستقالة من أي شعور أخلاقي، إنساني، وطني، كما مثقفي الطفرة الإيديولوجية، التنغّم بالقول إنه "كنّا عايشين". والقصد طبعًا أننا، وقبل أن تفتح علينا أبواب جهنّم أنصار الحرية والعيش المنعتق من كل خضوع، كنّا بألف خير ولم يكن ينقصنا شيء من السلع ومن الخدمات ومن أشياء أخرى لا يفسح المجال الفعلي هنا لاستعراضها. وللاستزادة في هذه الترجمة الساذجة للاحتياجات البشرية، كان من المكرّر والممجوج أن تسمع في بعض البلدان العربية، التي حكمتها جماعات ادّعت أنها علمانية، والتي لم تعرف من العلمانية سوى الاسم، القول إن الشابة، أختًا كانت أم زوجةً أم ابنةً، تعود إلى المنزل بمفردها في الثالثة صباحًا من دون أن تشعر بأي قلقٍ أو رهبةٍ. وبعيدًا عن المقاييس الأخلاقية والاجتماعية والدينية والنفسية والجنسية لكل قارئ، الأمر مستغرب عمليًا حتى على الرجال من دون أي موقف ذكوري يُذكر، فالليل حمّال أوجه من الخوف والحذر من المتشرّدين واللصوص والحشرات والحيوانات الضالّة، إلى آخره من الأسباب التي تجعل في الأمر مبالغة تتجاوز حدود الكذب القومي المشترك، لتصل إلى حدود الهزل الوطني شديد البعد عن الإضحاك، حتى ولو توفّرت الرغبة والمؤثرات. وفي هذه الجزئية، لربما لم تفتهم الحقيقة إلا في تفصيلٍ متعلّقٍ بمن يحق له أن يعترض النساء ليلاً أو نهارًا، سرّا أو جهرًا، من أصحاب الولاية وعاملي الحاكم وزبانيته. وهذا إن دلّ على انهيار أخلاق المتعرّضين للنساء، فهو لا يدلّ على رفعة أخلاق سواهم إلا بمعيار تسلّطهم وتمكّنهم.
الترحّم على الماضي المجيد لا يتوقّف عند المسألة النسائية، بل ينافسها في تسخيف القول والمقال
الترحّم على الماضي المجيد لا يتوقّف عند هذه المسألة النسائية، بل يتجاوزها لينافسها في تسخيف القول والمقال، ليتحدّث للجاهل من دون العاقل، عن توفر كل السلع وفنادق المتع وهواتف السمع المحمول. وبالطبع، لمن تتوفّر لديه إمكانية أن يجمع مالًا بأية وسيلة تُذكر. كما من المفترض به أن يتمتّع بعجزٍ بنيوي عن التفكير وعن التمحيص بما يحدُث من حوله في المشهد العام من قمع وإفقار وإذلال لكل من اختلف طبقيًا أو مذهبيًا أو مناطقيًا، وفي حجم السرقة والفساد اللذين يستمتع بمقارعتهما ليل نهار. وفي أحسن الأحوال، وهي قليلة إن لم نقل نادرة، فهو يتمتّع، بل بالأحرى يستمتع، بعدم الإحساس الإرادي والانتقائي بما يدور حوله في الخفاء النسبي أو على المكشوف الذي لا يريد أن "يشوف"، مستفيدًا من تراثٍ مليء بالخضوع وبالطاعة لمن يتحكّم بالمصير الإنساني والوطني.
في رحلة لي من مطار حلب في أوج زمن "التحديث والتطوير"، كان عنصر الأمن يفتش الحقائب بتشديد، فمرَّ من كان أمامي من دون أن يفتح حقيبته، ولكنه وضع ورقة نقدية عليها، تناولها العنصر ليعهد بها إلى جيبه ويتمنى له السلامة. وبما أنني لست باحثًا في علم السياسة فقط، بل باحث عن المشكلات خصوصًا، نهرت الطرفين صارخًا بكل ما أوتيت من جلمود صوتي بأن عليه أن يُفتش الحقيبة لربما تحتوي السلاح أو المخدّرات. لبّى العنصر النداء فزعًا من جرأتي التي دفعته إلى سوء الظن بي، فقد اعتقد أنني مسؤول أمني أو ما شابه لأتمكّن من توجيه هذا الكلام له. وعند دخولي قاعة الإقلاع، نظر لي المواطن شذرًا لأن أحدهم كشف له هويتي، وما كان منه إلا أن نهرني محتجًا على تطفلي، ومعبرا عن غضبه لتعرّضه للتفتيش وهو التاجر الحلبي المعروف. فهل كنا عايشين فعلًا؟ وكيف؟