كوابيس بلا نهاية
ما كان ينبغي لي أن أقرأ كتابا عن الشدّة المستنصرية، استجلابا للنوم الذي استعصى على خلايا دماغي، المتأهبة المتحفّزة، حائلة دون هجمة النعاس الطاغية التي تجذبك، كما المغناطيس، إلى غيبوبة النوم. حسم الصراع في النهاية، وسرعان ما غرقتُ فيه، طامحة إلى بضع ساعات من الهدوء النفسي والسلام الداخلي، لتتلقّفني، على الفور، الكوابيس الثقيلة ذات القدرة العجيبة على الإيهام بأن ما يجري من الغرائب في اللاوعي حقائقُ لا لبس فيها. وهكذا وجدتُ نفسي (خير اللهم اجعله خير) امرأه فقيرة الحال من رعايا الدولة الفاطمية، أدين بالولاء والطاعة إلى الخليفة المستنصر بالله. كانت مياه النيل قد جفّت سبع سنين عجاف، وتصحّرت الأرض وهلك الزرع وأكل الناس الميتة والقطط والكلاب، ولم يسلم المارّة من الخطاطيف والكلاليب لاصطيادهم والتهامهم أحياء لا يُرزقون.
شاهدُتني أسير بمحاذاة أحد الأسوار، أبحثُ عن كسرة خبز تسدّ جوعي، وإذ بي أقع فريسةً في الشّباك. اندفع الجوعى الذين نجحوا في أسري متأهّبين لالتهامي. بدوا لي مثل "الزومبي" الذين نشاهدهم في أفلام الرعب. أخذتُ أصرخ مستنجدة، وظلّ صوتي مختنقا في جوفي. ظللتُ أحاول حتى انطلقت صرخة رجّت أرجاء المنزل. وحين صحوتُ تعيّن علي أن أنتظر بضع لحظات، قبل إدراكي أن ما جرى كان مجرّد كابوسٍ تمكّن من حواسّي كلها. هرعتُ إلى الثلاجة وأخذت ألتهم كل ما وقع بين يديّ من أطعمة محاولة التغلّب على إحساسي الرهيب بالجوع. شربتُ زجاجة ماء كاملة، وأنا أحمد الله أن كل ما مررتُ به من أهوال صنيعة، لا وعيي الشرير.
اقتربت الساعة من الثالثة فجرا، ما يعني أن أمامي معركة جديدة أخوضُها بضراوة، كي أحظى بساعات نومٍ إضافية. لعنتُ نمط نومي المتقطع الذي ينعكس سلبا على مزاجي المتكدّر طوال الوقت، ويحرمني نعمة النوم العميق الطبيعي مثل بقية خلق الله، خصوصا فئة ثقيلي النوم الذين يستغرقون عميقا وطويلا فيه، بحيث لا يتذكّرون أحلامهم، ويجدون صعوبة كبرى في الاستيقاظ. وحين يفعلون، تبدو وجوههم مشرقة مرتاحة ووجناتهم متورّدة ومزاجهم رائقا، يقبلون على الحياة رغم كل شيء، ويضفون جوّا من البهجة حولهم. استعنتُ بحبّة منوّم. أحاول تحاشيها قدر الإمكان، لأنها تضاعف إحساسي بالكآبة.
حين غرقتُ في النوم القسري من جديد، وجدت نفسي في غزّة تحت أنقاض بيت مهدّم. كان ثمة عويل نساء وصراخ أطفال مذعورين، ونحيب رجال مفجوعين ودويّ انفجارات وأصوات مندوبي المحطّات الفضائية يبثّون وقائع العدوان الصهيوني على غزّة، وهدير المظاهرات في عواصم العالم تندد بجرائم الحرب، وتدعو إلى وقف الحرب وحقن الدم، ثم تناهت إلى سمعي أغنية سويدية اكتسحت العالم، لا أعرف سوى مقدمتها، "تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية". شرعتُ في نزع التراب والحجارة الجاثمة فوق صدري، ناديتُ بأعلى صوتي علّ أحد الباحثين بين الأنقاض يسمعني. لمحت جثة طفل رضيع ممدّدة بالقرب مني. تحسّست نبضه، وتأكّدت أنه فارق الحياة منذ زمن. ظهرت كوّة صغيرة بزغ منها ضوء النهار، خرجتُ منها بصعوبة، وأنا أحمل الرضيع بين يديّ، سِرت به في شوارع غزّة، وأنا أغنّي له وسط دموعي "يلا تنام يلا تنام". صادفت صديقةً غزّية محاطة بصغارها. قالت لي باكية "الطيارات فوق روسنا ما بتوقّف. رحت السوق مشي. ما فيش أكل والناس جوعانة. صرنا نخبز على الحطب، إذا ما توفّر شوية طحين رح يصير عنا مجاعة أكيد. دمار وخراب ومحلّات تجارية فارغة".
حين صحوتُ من نومي المضطرب لم أتنفس الصعداء مثل العادة، فالكابوس ما زال مستمرّا، والرضيع مجهول الهوية ما زال ميّتا، غير أن صراخه المحتج الغاضب ما زال مدوّيا، وقد طغى على كل شيء.