لاعب البوكر
إضافة إلى المفاجأة المنظمة بخطاب موجّه من الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلينسكي، عبر خدمة الفيديو، إلى المشاركين في حفل افتتاح منتدى الدوحة الأسبوع الماضي، فقد شارك وزير الخارجية الفرنسي، جان لو دريان، بشكل غير متوقع، في ختام المنتدى بمداخلة سريعة عن المسألة الأوكرانية. وقد أكد على ما فتئ يعود بقوة في الخطاب السياسي والإعلامي الكوني، والذي يشير الى الشبه الشديد بين ما يحصل في مدينة ماريوبول الأوكرانية وما حصل في حلب السورية سنة 2016، فالمعتدي الروسي نفسه، مع زبائنه المحليين، والوحشية التدميرية ذاتها مع استخدام مختلف صنوف الأسلحة من دون ضربات "جراحية" كما ادّعت بعض الجيوش اللجوء إليه من وقت إلى آخر، بافتراض أنها تستهدف المواقع العسكرية حصراً، وهذا ما يستحيل التثبت منه في الحواضر المدنية، ولا حاجة لاتّباع دوراتٍ عسكريةٍ متقدّمة للحسم في هذا.
سياسياً، يقول الروس اليوم إنهم يحاربون "النازيين" الأوكرانيين، كما كان يحلو لبعضٍ أن يقول إنهم كانوا يستهدفون "الإرهابيين" في حلب في الأمس. وفي الحالتين، حيث لا نازيين في ماريوبول، كما لم يكن من إرهابيين في حلب، إلا إن اعتبرت جميع فصائل المعارضة للنظام السوري والاحتلالين الروسي والايراني، وعلى الطريقة الإسرائيلية، هي مجرّد مجموعات إرهابية. أما عسكرياً، فيختلف المثالان عن بعضهما، من حيث إن الأوكرانيين يدافعون عن أرضهم تجاه محتلٍ خارجي اليوم، إنما بالأمس، فقد كان بعض السوريين المعارضين يسعون إلى الدفاع عن مكتسباتهم أمام احتلال سياسي محلي، يدوم منذ أكثر من خمسة عقود، مُعزّز بقوى أجنبية كروسيا وإيران. وربما يمكن لخبراء عسكريين أن يفيدوا بأن تحصّن المتمرّدين من ثوار أو سواهم في المدن هو من أسوأ أنواع التكتيكات العسكرية، إذ لن يجد المعتدي أي حرجٍ في حصارهم مع ما يترتب عليه هذا الحصار من منع الحصول على مستلزمات العيش الرئيسية، كما عبر قصفهم المستمر، وبما أوتي به من سلاح ومن دون أهداف محدّدة، حتى يقضي عليهم عبر القضاء على البشر والحجر. المقارنة إذاً تصحّ هنا بين مصائر المدينتين، ماريوبول وحلب، ولكنها لا يمكن أن تستقيم عسكرياً فيما يتعلق بطبيعة العملية "الدفاعية" التي تبنّاها الطرفان، السوري والأوكراني، المتحصنان في المدينتين.
يبدو أن مغامرة بوتين في أوكرانيا وقد مضى عليها شهر قد فشلت
يبدو، أخيراً، أن مغامرة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، التي مضى عليها شهر، قد فشلت. أو هي، في أحسن الأحوال المناسبة له لم تؤت أكلها. وبعد أن كان قيصر الكرملين يعتقد أن حسمها يحتاج أياماً معدودات فقط، وبعد أن سبّب الغزو الروسي دماراً شبه شامل وحصاراً شبه كامل وآلافاً من الضحايا من جانبي الشعبين "الشقيقين"، الروسي والأوكراني، فقد بدأ التراجع أو إعادة التموضع لاعتبارات محض عسكرية. وتبين للمراقبين من الخبراء العسكريين ضعف القدرات التكتيكية لجيشٍ يتمسّك بالعقيدة السوفييتية التي ترجع إلى الحرب العالمية الثانية. عقيدة كانت تتناسب مع دور الجيوش التقليدية، والتي تحتاج تحرّكاتها إلى قوافل مزوّدة بالتدابير اللوجستية اللازمة، بعيداً عن سرعة التحرّك والمناورة التي تمكّن الأوكرانيون من تعلمها خلال السنوات القليلة الماضية، إضافة الى تزويدهم بسرعة قياسية نسبياً، وعلى عكس السوريين، بما يحتاجون من أسلحة خفيفة فعّالة غربية متطوّرة، يمكن لها أن تشلّ جزئياً أو كلياً تقدم المدرّعات الروسية، كما التخفيف من كثافة القدرات الجوية القتالية للجيش الروسي.
وفي حوار مع ضابط غربي متقاعد، أبدى استغرابه الذي وصل إلى حد الذهول، لفداحة أخطاء القوات الروسية التي أُقحِمت في غزو أراضي الجمهورية الأوكرانية. وبالعودة إلى تاريخ المعارك القديمة، أشار إلى تكرار خطأ بونابرتي ارتكبته جيوش نابليون عند حصارها موسكو، حين لم يجر تقدير مواعيد التغير المناخي الذي أتى بالربيع أو بشائره، والذي أدّى إلى ذوبان الثلوج، وتحوّل الأراضي الترابية إلى مزيج لزج وعميق من الأطيان التي إن هي لم توقف تحرّك العربات، فعلى الأقل ستعيق حركتها مدة مناسبة. فهل نسي قادة الجيوش الروسية الرجوع إلى أمهات الكتب الحربية التي تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟ ومن جهة أخرى، فقد زُجّت قواتٌ ضعيفة الخبرة، وغالبيتها من المجندين الصغار، حيث بدا الرعب في محياهم حتى قبل وقوع بعضهم في أسر القوات الأوكرانية. وسرعان ما أتى بوتين بعناصر من قوات دميته الشيشاني، كما بدأ بالتحضير لاستقدام قواته المتمركزة في جورجيا، وكذلك بعض المرتزقة من أصدقائه في دمشق. علماً أن القوات الأوكرانية، حسب هذا الخبير العسكري، كانت عصب فصائل النخبة في جيش الاتحاد السوفييتي سابقاً.
صار من شبه المؤكّد أن بوتين ليس لاعب شطرنج كما اعتقد بعضهم أو تمنّوا، بل لاعب بوكر
اتحدت أوروبا، وغيّرت ألمانيا من عقيدتها الدفاعية جذرياً، وسيُصار إلى وضع سياسة دفاعية أوروبية بمعزل عن أميركا، كما بدأ الأوروبيون المعتمدون تاريخياً على الغاز الروسي في إيجاد البدائل المستدامة. لقد ساعد غزو بوتين على التعجيل في كل ما سبق، إضافة إلى إخضاع بلاده لعقوبات فعّالة تضرب العصب المالي الأوليغارشي الرئيسي فيها، فصار من شبه المؤكّد أن بوتين ليس لاعب شطرنج كما اعتقد بعضهم أو تمنّوا، بل هو لاعب بوكر.