لا بهجة للبدايات دائماً
مبكّراً، تكتشف أن البدايات ليست دائماً مبهجة، حتى وأنت ترى الطرف الآخر يحاول أن يظهر أفضل وأجمل ما لديه. لكن الصورة الذهنية التي تكوّنها عن الطرف الآخر لا تكون دائماً كما رسمتها وتخيّلتها. ولم يكن الطرف الآخر في هذا الاكتشاف إنساناً بشرياً، لكنّه كان كياناً مادياً يحوي بشراً كثيرين، ويطلق عليه اسم "المدرسة".
في اليوم الأول من المدرسة، وحين كنت أدخلُها للمرّة الأولى، كانت لدى أمي صورة مسبقة عما يحدث في ذلك اليوم، بحكم أنها معلمة، على عكس الصورة المتشكلة في خيالي الطفولي. ولذلك رفضتْ رفضاً قاطعاً أن أرتدي مريول المدرسة الجديد الذي خاطته لي جدّتي بيديها، وأشارت عليّ أن أرتدي مريولاً قديماً لشقيقتي الكبرى، وسبب ذلك في رأيها أنّه يتم في أول يوم في العام الدراسي استغلال التلاميذ الصغار في تنظيف الفصول المغلقة والعابقة بالغبار والأتربة. ولذلك، لا ترغب في أن أعود إليها بمريولي الجديد متّسخاً أو ممزّقاً. وهكذا كنت في يومي الأول أحاول أن أخفي نفسي من باقي التلميذات الصغيرات داخل مريول أوسع من مقاسي، وتبدو عليه علامات القدم. ولم أشعر ببهجة التقافز والوقوف في مقدمة الطابور الصباحي، وكنت أدسّ نفسي في آخر الطابور حتى انتهى اليوم من دون بهجةٍ رسمتها في خيالي في الليلة الفائتة. لكنّي لم أكن أجرؤ على مخالفة أوامر أمي، والتي لم تكن تتخلّى عن شخصية المعلمة في بيتنا.
في العام الدراسي الثاني، وبناءً على إلحاحي وتدخّل أبي الذي كانت أمي تتّهمه بأنه يُفسد تربيتي، وافقتْ أن أذهب، في يومي الأول من العام المدرسي، وأنا أرتدي المريول الجديد، وكان المريول يُربط من الخلف بحزامٍ على شكل وردة، ويحيط بالخصر بإحكام، فيبرز دقة خصر التلميذة ومدى نحافتها. ولذلك، أحكمت أمي ربط الحزام إلى الخلف، وهي تُبدي ملاحظة متوجّسة ومتحسّبة بأنّ المعلمة لن تطلب مني المشاركة في تنظيف الفصل لضعف بِنيتي. ولم يكن وقتها هناك أذنة أو عمّال نظافة متخصّصون لتنظيف الفصول، فقد كانت مدارسنا تابعةً لوكالة الغوث (أونروا)، والتي تتلقى الدعم العالمي لتحسين حياة اللاجئين الفلسطينيين. وهكذا كنتُ أتقافز في ساحة المدرسة في وقت مبكّر فرحةً بمريولي الجديد، حتى نال مني التعب، فجلستُ بجوار سور المدرسة، في انتظار أن يقرع الجرس لكي نتوجّه إلى فصلنا الجديد، ولم أكن أعلم أن الجدار المتهالك الذي استندت إليه كان مثقوباً أيضاً، وأنّ هناك طفلاً عابثاً أقوى مني بنيةً قد مدّ يده من الجانب الآخر من الجدار، والمفضي إلى أحد أزقّة المخيم، فجذب الحزام بكل قوته، فانقطع، وأصبحتُ بلا حزامٍ حول خصري، وأصبح شكل مريولي مضحكاً وغريباً، وبتّ في داخله مثل عود وحيد من الثقاب في علبة فارغة.
وهكذا فقدت بهجة البداية للمرّة الثانية، ولم أقف في مقدمة الطابور، حيث كانت المقدّمة مخصّصة للتلميذات المتفوّقات المزهوّات بثناء المعلمات بالقرب منهن، ودسستُ نفسي بين دموعي والتلميذات اللواتي يقفن في نهاية الطابور.
هكذا أستحضر تلك الذكريات مع بداية العام الدراسي هذا العام، وحين أرى عبر مواقع التواصل الاجتماعي صور أطفال يتثاءبون في الطابور، وآخرين ينامون وقوفاً في يومهم الأول، ويتبادل مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي هذه الصور بتعليقاتٍ ساخرة، وتندّرات غريبة وتكهناتٍ بفشل مثل هؤلاء التلاميذ الكسالي الأبرياء ورسوبهم، أسترجع هذه البدايات التي جعلتني أكره المدرسة منذ صغري، لكنّ ذلك لم يمنع أن أكون تلميذة متفوّقة. ولم يمنع أبداً أنني أشيحُ بوجهي، حين أمرّ من طريق مدرستي الابتدائية الأولى التي كنت أحلمُ بأن أقضي فيها أجمل البدايات لحياتي، بل إنّني أشعر باللوم الذي لم يتزحزح على قوانين أمي على طيبتها، وعلى أنّنا لاجئون لم نظفر بمدارس مبنيةٍ على نحو جيدٍ بلا جدران متهالكة ومليئة بالثقوب التي ملأت روح طفولتي بالندوب باكراً.