لا تقصفوا خير الدين الأسدي رجاءً
لو كان بين حكام روسيا اليوم شخصٌ فهيم، مثقفٌ، متحضرٌ، لناشدناه أن يوقف القصف على حلب، إكراماً لروح العلامة الكبير خير الدين الأسدي (1900- 1971)؛ الرجل العبقري الذي أنجز، في ثلاثين عاماً من العمل المتواصل، موسوعةً تعجز عن إنجازها مؤسسةٌ ثقافيةٌ حكوميةٌ في بلد متخلف. أقول هذا الكلام على سبيل المجاز بالطبع؛ ذلك أن المؤسسات الثقافية الحكومية تمتلك المالَ، والرجال، والمعدّات التقنية، ولكنْ: من أين لها أن تأتي بروح خير الدين الأسدي، وثقافته، وولعه الكبير بلغة أهل حلب، وطبائعهم، وطرائقهم في العيش؟
ثمّة مفارقة غريبة، يقودنا إليها الحديث عن العلامة خير الدين الأسدي، وهي أن الأمم المتحضرة تهتم بأدبائها وفلاسفتها وعلمائها، حتى ولو كانوا أقل قيمةً من خير الدين الأسدي، اهتماماً استثنائياً، فتُكَرِّمهم حينما يكونون أحياء، وتطبع مؤلفاتهم، وتترجمها إلى اللغات الحية، وتمنحهم الجوائز، وتُحَوِّلُ بعض قصصهم إلى أفلامٍ ومسلسلات، وتجعلهم يعيشون في بحبوحةٍ إلى أن توافيهم المنية. ووقتها يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، إذ تُسَمى الشوارع والمكتبات والساحات العامة بأسمائهم، وتُحَوَّل بيوتُهم إلى متاحف صغيرة يؤمها السياح من كل مكان، ناهيك عن إدخال أعمالهم الفكرية في مناهج المدارس والمعاهد والجامعات.
لم يحتمل سدنةُ الوسط الثقافي التقليدي في حلب وجود عبقرية "الأسدي" الكبيرة، وسرعان ما اتهموه بالجنون، والشذوذ، والهرطقة، وحرّضوا عليه العامة والجُهَّال ليعاكسوه، ويضايقوه، ويلحقوا به الأذى. والأسدي يروي، في أحد فصول موسوعته، كيف اعتدى عليه مجموعة من الشبان، متهمين إياه بالزندقة، وكيف تصدّى لهم، مع أنه بيد واحدة (إذ فقد الثانية سنة 1923، حينما كان يصنع متفجرات لعمل مسرحي)، ولم ينهزم أمامهم.
وأما عن حياته، فقد كانت حافلةً بالفقر، والتقشف، والوحدة، فكان يشتغل معلماً بالوكالة، وحينما تجمع لديه، وهو في العقد السادس، مبلغٌ من المال، اشترى به أسهم في شركة الكهرباء المساهمة، وفي ليلةٍ خاليةٍ من ضوء القمر، استولت الدولة على الشركة، فذهبت مدّخراته في خبر كان، ووقتها تقدّم من المرآة، وقال: مرحباً يا خيرو. فرَدَّ عليه ظلُّه: مرحبتين، أهلاً يا سيد خيرو... ومضى يُجري مع نفسه حواراً عامراً بالطرافة، مؤدّاه أن (تحويشة العمر) طارت، وأنت مُخَيَّرٌ الآن بين أن تموت كمداً، أو تصاب بالفالج، أو تنسى، ثم تضحك، وكانت النتيجة أنه انتصر على محنته، وضحك.
في سنة 2003، على ما أذكر، حدّثني الفنان عمر حجو عن معجزة خير الدين الأسدي الشهيرة "موسوعة حلب المقارنة"، وقال لي، بلهجته الممازحة التي يقلدنا فيها، نحن أهل محافظة إدلب: أشو رأيك يو خاي خطيب أن نحولها إلى عملٍ إذاعيٍّ ناطقٍ باللهجة الحلبية؟ قلت له: ولكنني لا أمتلك نسخةً منها. فما كان منه إلا أن اشترى منها نسخةً كاملة، بأجزائها السبعة، وأهدانيها، وحينما بدأتُ قراءتها، وجدتني أمام عمل ساحر عظيم. وبالفعل، أنجزتُ منها 75 حلقة إذاعية بعنوان "تلك الأيام"، أخرجها نذير عقيل، بطولة لفيف من فناني حلب المعاصرين.
لو كان خير الدين الأسدي حياً، وذهبنا إليه، ورجوناه أن يَخرج إلى ظاهر حلب، ويقابل قائد جيش الغزاة، فلاديمير بوتين، ويتشفع لديه بأهل مدينته، مثلما فعل المعرّي، عندما خرج يتشفع بأهل المعرة لدى صالح بن مرداس، لما توانى بالخروج، لأنه يعشق حلب، على الرغم من أنه لم يعثر فيها على قبرٍ يؤوي جثمانه، وحينما حمله بضعةُ رجال، وسلموه لحارس إحدى المقابر، وعرف الحارس أنه رجلٌ لا أقارب له، باعه بمبلغٍ صغير لطلاب كلية الطب، ليُجروا عليه اختباراتهم.
ولكن؛... المشكلة أن فلاديمير بوتين ليس كصالح بن مرداس الذي كان يعرف قيمة المعرّي، ولا شك في أنه سيصنف الأسدي في خانة الإرهاب، ويأمر جلاوزته بقتله قبل الوصول إليه.