لبنان إلى العام الأسوأ
لامس تأثير الأوضاع السيئة في لبنان مستوى غير مسبوق في تاريخ حالات الانهيارات على المستويات كافة، السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، إلى تأثير أزمة النزوح السورية، ما يقدّر بنحو مليون ونصف مليون نازح، أي ربع إجمالي عدد السكان في لبنان.
تتعرّض الخدمات في لبنان إلى انهيارات بنيوية، ولضغوط هائلة، تدخل البلاد في فوضى، تقع في صلب تعطّل عمل المؤسسات السياسية والإدارية، بعد أن أدّت الأزمات المتلاحقة منذ العام 2018 إلى تفاقم الأوضاع على الأرض أمام اللبنانيين، في واحدة من أخطر الانكماشات الاقتصادية، منذ نهاية الحرب الأهلية في أوائل التسعينات. فبحسب تقديرات البنك الدولي، تراجع إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في العام 2021 بنسبة 10.5%، على خلفية انكماش سجل 26%، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي في لبنان من حوالي 52 مليار دولار العام 2019 إلى حوالي 18 مليار دولار العام 2021، أي ما يمثل انكماشا هو الأعلى بين 193 دولة. ومن المتوقع أن يصل الديْن العام إلى 190% من الناتج المحلي الإجمالي... إنه تقرير قاس ينعى تعافي لبنان وفرضية تعويم القطاع المالي.
تراجع دراماتيكي في النمو الاقتصادي، وسنة 2023 يتوقع أن تكون الأسوأ على صعيد ارتفاع الأسعار وتقلص القدرة الشرائية، وتراجع الإنتاج المحلي 3.6%، مع رفع سعر الدولار الجمركي، ورفع الرواتب، ومصاعب التمويل، وإيجاد كتلة نقدية موازية تقدر بـ 15 تريليون ليرة لبنانية. يتوقع خبراء اقتصاد أن تبلغ نسبة التضخّم 183%، أعلى المعدلات على مستوى العالم، ويبلغ معها التضخّم في مؤشّر أسعار المواد الغذائية 332%. وأي رئيس مقبل للجمهورية لن يكون في مقدوره مواجهة التضخّم، ووقف الكساد المستشري في القطاعات كافة، وتفجّر المشكلات وارتداداتها الاجتماعية، فالصعوبات لا تقاس بالمراحل السابقة من السنوات المنصرمة على شدّتها وقسوتها.
سلطة تمعن في الانتقام من اللبنانيين، فتملك القدرة على جرف الناس وإلهائهم بعيدا عن شوارع الغضب
أصبحت الانتظارات إحدى آليات العمل السياسي في لبنان. لا وقت للعمل، والصراع، والضبط، والتغيير، هي إشكالية الحكم لدى طبقة متسلطة على مقدّرات القطاع العام، قوامها الفساد، مع نشاة "نظام أبوي" سياسي، وانكار قضايا الناس، "استخفاف بتسمية الأشياء لا يزيد العالم إلا شقاء" (ألبير كامو)، وعبثية سياسية بانتظار اشارات من الخارج. القانون الدستوري، على أهمية تطبيقه واستحقاقاته، وعدم الإخلال بالتوازنات الميثاقية، توازيهما بقوة، أهمية استمرار العمل بالقانون الإداري الناظم لحياة اللبنانيين اليومية، ووقف التراجع المرعب في سلم أولوياتهم إلى مستوى ثان من العوالم السفلية. "ستاتيكو سياسي" يزيد حيث اللازمن واللاشيء، والأوراق البيضاء. استحقاق رئاسي مؤجّل، في لبنان المؤجل. لبنان خارج الزمن. سلطة تمعن في الانتقام من اللبنانيين، فتملك القدرة على جرف الناس وإلهائهم بعيدا عن شوارع الغضب، وحتى إبعادهم عن نزعة التفكير والأفعال ودفعهم برشاوى (صيرفة)، فتذرّيهم في لهوهم يلعبون، تشعرهم بالرضى مع تفشّي الفساد الكبير. لا شيء غير الفراغ المحلي. سلطة "آل كابوني" ممن ارتضتهم الجماهير قادة لمجتمعهم، لا قدرة لها على إصلاح الأحوال، أولى للغرابة، أولى بالإشفاق.
كان لا شيء يحصل استثنائيا على الأرض. دخلت الإدارات العامة في كوما (غيبوبة)، قلة من تجد سبيلا للالتحاق بمراكز عملها، والمكاتب أصبحت مسكونة بالفراغ . قصور العدل صارت مهجورة مع اعتكاف قضاةٍ كثيرين. المستشفيات تعاني من فقدان المواد الطبية، ومع هجرة أسراب كاملة من الأطباء والممرّضات من أصحاب الكفاءات. المدارس تعاني من التسرّب الدراسي بسبب ارتفاع تكاليف الانتقال والمعيشة.
يطوي لبنان العام 2022 على عوالم فوضوية. تتحوّل المدن إلى بؤر للفقر والتشرّد
نصف العائلات اللبنانية لا يستطيعون شراء هدايا العيد. الناس لا يستطيعون شراء أحذية جديدة لأطفالهم. تكاليف المعيشة ما عادت تطاق، والدولار يواصل جنونه ارتفاعا، يستنزف ما يتبقى من احتياط المصرف المركزي، فيؤثر سلبيا على خطط إلحاحات الطوارئ في تمويل شراء أدوية السرطان، ومواد أساسية تستخدم في غسل الكلى، وخطط لتحسين أوضاع الكهرباء. يضرب موظفو شركات الخليوي، فتتراجع خدمات الاتصالات. اللبنانيون الذين انتفضوا في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ضد المصارف التي لم تف بالتزاماتها بتأمين وضمان ودائعهم، وفي مواجهة الأوليغارشية التي هرّبت أموالها إلى الخارج، تحوّلوا في غالبيتهم إلى "شعب صرّاف"، توزيع أفضل لوقت العمل بين الناس على ماكينات الصراف الآلي وبتفاعلية، تمتد ساعات الليل والنهار، لجني أرباح وهمية، عملا بتعاميم اللهو الريعي، إصدارات مصرف لبنان، خدمة لتغاضيهم عن مآسي هندسات الانهيار الذي لا يبدو أحد في السلطة بصدد تأكيد مسؤوليته عنه. سلطة تفتقر إلى آليات الفكر وسؤال السياسة، فتزيد الناس شقاء، وتتجه الأمور إلى التصعيد الطائفي، وعلى مقربة من ديوانية حكومة مستقيلية ميقاتية، تعمّق الاحتقان والتقسيمات الانتقائية. ثم ليس مؤكّدا أن المسألة اللبنانية تتبع نظرية التأطير في اهتمات القوى الإقليمية والدولية، وأي تحميل لنسخة رئيس جمهورية (مدبلجة)، لن تشكّل حلا في ظل توازن قوى عاجز عن إيجاد حلول لمشكلات الناس.
يطوي لبنان العام 2022 على عوالم فوضوية. تتحوّل المدن إلى بؤر للفقر والتشرّد، 93% من العائلات تعاني من انهيارات على المستوى المعيشي، 91% تتناقص أجورها في الليرة اللبنانية، 93% استراتيجيات تكيف سلبية متعلقة بالغذاء، 75% هجرة، 66% فقدان الأمن، تراجع في المساحات الزراعية (49% في الشمال، 28% في المتن، 16% في صور). يعاني قطاع الشركات (دراسة أولى من نوعها لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي) من خسائر هائلة، ومن ضعف الإنتاجية وتسريح الموظفين، واإإقفال، وأزمات الناس تتمحور حول الأمن أولا، الصحة، التعليم، الكهرباء، القدرة الشرائية، سوء التغذية.
ظروف تفترض بذل جهود استثنائية للارتقاء والتنسيق، والتعاون لحماية لبنان من صراعات سياسية
إشارات المرور على المستديرات مطفأة، لا تعمل. لا كهرباء، لا مياه (ما خلا مياه الفيضانات التي تجتاح الأوتوسترادات ومنازل الناس ومما تبقى من متاع الحياة). غياب مرعب لقوى الأمن عن الطرقات، ازدهار في أرقام الجريمة والسرقات، أحياء لا تستطيع أن تقطعها، أو تركن فها سيارة معرّضة للاختفاء. عجز سلطة مفرط، وغياب في استجابة الحكومة للأزمات المتفاقمة، وإحداث أي نوع من الانتعاش الاقتصادي.
تفاصيل مجنونة، أن لا تجد طابعا بريديا لإنجاز معاملة رسمية، لاستصدار إخراج قيد فردي، وثيقة سفر، أو أوراقا وحبر طابعة لإنجاز معاملات. مشهد لبناني بائس فوق الوصف. قرى عديدة غادرها الشبان والصبايا، لم تعد تسمع فيها أي أصوات، والمخاوف من عودة الأوبئة. ظروف تفترض بذل جهود استثنائية للارتقاء والتنسيق، والتعاون لحماية لبنان من صراعات سياسية، والمضي في الخطط الوطنية والإقليمية التي تضمن حالات من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
ما خسره اللبنانيون، نتيجة تفشي الفساد وسوء الإدارة و"البربرية السياسية"، يشكل جزءا أكبر من كلفة الحرب الأهلية والنزاعات السابقة.عام مقبل من اللايقين والأزمة تتعمق، ومستويات أعلى من التوترات، تقوم على قواعد مذهبية وطائفية، وزيادة التعرّض لأشكال من العنف والفقر والانتظارات.