لبنان في الهامش العالمي
خلال زياراتك إلى لبنان، لا بد أن تتعثر بالكثير من البرامج السياسية الحوارية التي تملأ الشاشات اللبنانية، وما تحمله من تحليلات مرتبطة بالأوضاع اللبنانية، لا سيما في ما يخصّ الفراغ الرئاسي الذي تعيشه البلاد منذ أشهر. اللافت في كل هذه التحليلات، والتي لا تهدف إلا لتعبئة الهواء، حجم الانفصال عن الواقع المحيط المؤثر في الحياة السياسية اللبنانية، والغرق في المحلية باعتبارها بوابة اجتراح الحلول لكل المشاكل التي يعيشها لبنان منذ أكثر من عامين.
في الملف الرئاسي، على سبيل المثال، تطالعك التحليلات التي تربط هذا الاستحقاق بتفاهماتٍ داخليةٍ وحوار وطني دعا إليه رئيس المجلس النيابي، نبيه برّي، فاصلة الملف عن التوافقات الخارجية، ومستغربة ربطه بأجنداتٍ خارجية. مطالعة كهذه، والتي ساقها أحد نواب البرلمان اللبناني، هي خارج سياق التاريخ كلياً، خصوصاً في ما يتعلق بالاستحقاق الرئاسي اللبناني، والذي لم يكن يوماً، أو على الأقل منذ خمسينيات القرن الماضي، معزولاً عن التدخلات الخارجية، والتي كانت تزكّي هذا المرشح على ذاك. تنوعت التدخلات وتبدّلت خلال العقود الماضية وصولاً إلى اليوم، فعربياً كان لمصر عبد الناصر القول الفصل في وصول هذا الرئيس أو ذاك إلى سدة الحكم، بالإضافة إلى الصوت الأميركي أو السوفييتي المرجّح. ثم جاءت فترة الوصاية السورية، والتي أوصلت العديد من الرؤساء إلى قصر بعبدا، وتخللتها فترة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، والذي كان له دور في انتخاب بشير الجميل في عام 1982. اليوم لا يختلف الوضع كثيراً، فاللاعبون ما زالوا موجودين على الساحة اللبنانية، لكن بمسميات أخرى. فإذا لم تعد للنظام السوري الكلمة العليا في الملف الرئاسي أو غيره من الملفات اللبنانية، فإن هناك الدورين السعودي والإيراني، بالإضافة إلى الأميركي طبعاً، المعوّل عليها في حسم الملفات اللبنانية العالقة.
التعويل اللبناني اليوم، والذي يورده أكثر من مسؤول ومحلل سياسي على الشاشات، هو على تقارب سعودي إيراني من شأنه إن يحمل انفراجة لبنانية، ليس على الصعيد السياسي فقط، بل الاقتصادي أيضاً، مع التدهور المتسارع لقيمة الليرة اللبنانية وشح المواد الغذائية والدوائية من الأسواق المحلية.
لكل ما يتجاهله هؤلاء المسؤولون، أو يحاولون إنكاره، هو أن لبنان اليوم ليس على أي أجندة دولية أو عربية، أو على الأقل ليس من أولويات مثل هذه الأجندات. فلو افترضنا أن هذا التقارب السعودي الإيراني حصل، فإن هناك الكثير من الملفات العالقة بين البلدين تسبق كثيراً الوضع اللبناني، والذي لم تعد الرياض تضعه في اعتبارها منذ إخراج سعد الحريري، والذي كان يعد رجل السعودية، من الحياة السياسية اللبنانية واعتزاله العمل السياسي. وتدخلات الرياض في الفترة الأخيرة لبنانياً اقتصرت على جس نبض الأطراف الداخلية لتحديد الموقف الذي من الممكن أن تتخذه السعودية من الوضع اللبناني.
قبل لبنان، هناك الكثير من الملفات الأهم بين طهران والرياض، بداية من البرنامج النووي الإيراني الذي يقلق السعودية ودول الخليج، مروراً بالوضع العراقي، ووصولاً إلى حرب اليمن والاستنزاف السعودي هناك، في ظل استعصاء الخروج بتفاهمات تنهي الحرب وتحفظ للجميع ماء الوجه. إضافة إلى أهمية هذه الملفات ونيلها الأولوية على حساب الوضع اللبناني، فإن المفاوضين الإيرانيين والسعوديين يدركون تعقيدات الدخول في حوار حول لبنان، خصوصاً أن نقطة الخلاف، وعنوانها "حزب الله"، لا مجال لحل وسطي بشأنها.
هذا الوضع الذي يحاول المسؤولون اللبنانيون تجاهله، يضاف إليه الانشغال الأميركي والأوروبي بما هو أهم بالنسبة لهم مع الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة العالمية، يعني أن الحالة اللبنانية لن تشهد أي انفراج قريب إلى حين إخراجها من الهامش العالمي والإقليمي.