لبنان نحو الارتطام الكبير
عكست تصريحات مسؤولين أميركيين مهتمين في الشأن اللبناني مناخات تشاؤمية لمرحلة ما بعد الانتخابات البرلمانية أخيرا، ما زاد الأمور غموضا وتعقيدا. وينتظر اللبنانيون ما قد يدلي به مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى، جيفري فيلتمان، والذي كان قد شغل منصب سفير الولايات المتحدة في لبنان ما بين 2004 و2008، لتكتمل المرثية الثلاثية الأميركية. ذلك أن فيلتمان هو الأكثر إحاطة بحجم تصاعد التناقضات في المشهد اللبناني من زميليه الدبلوماسيين السابقين، ديفيد شينكر وديفيد هيل. وتصريحات هذين تعكس الرؤية الأميركية لمستقبل لبنان، ربطا بالنتائج التي حققتها قوى التغيير في الانتخابات.
استبق السفير ديفيد شينكر، (مساعد وزير الخارجية الاميركية، مسؤول ملف الشرق الأوسط 2010-2021)، في ندوة في معهد واشنطن، نتائج الانتخابات، كاشفا عن دور أميركي في تسريع الانهيار المالي، وعن استغلال حركة 17 تشرين من أجل تشويه صورة حزب الله وإضعافه مع حلفائه. وفاجأ فريق المعارضة المسيحية بكلامه عن "نرجسية" قياداتها السياسية. ما قاله شينكر سردي، توصيفي، بالمقارنة مع مقال زميله السفير ديفيد هيل في "ويلسون سنتر" الذي جاء على مستوى من الصراحة والتوقع "انهيار وشيك للبنان، والانتخابات لا تقدّم أي خلاص". استعرض هيل، الذي زار لبنان مرتين في 2019 و2020، أوهاما واعتقادات خاطئة تتعلق بنتائج الانتخابات. أحدها في ما يتعلق بتقليص حضور حزب الله البرلماني وتحالفاته، ما يقلّل من قوته. ووهم آخر يتعلق بأن الانتخابات يمكن أن تنتج ذلك النوع من الحكومة الناشطة اللازمة للإصلاح، وفي دور آخر للحاكم. والوهم الثالث الأخير الخاطئ أن المستقلّين يمكنهم التقدّم في مثل النظام اللبناني المغلق، وأن "النتائج التي حققتها المعارضة المسيحية المناهضة لحزب الله مثيرة للإعجاب، ولكنها غير كافية لتوجيه المشهد السياسي بشكل ملحوظ". ويستخلص الدبلوماسي الأميركي "أن لبنان صار مرتهنا لتفاعل التناقضات في ظروفٍ تصادميةٍ تسود المنطقة". وبالنسبة للأميركيين "حان الوقت لتقويم ما إذا كان لبنان يمثل أولوية، ويجب أن تكون أميركا واقعية ومعتدلة ومستعدّة للتصرّف إذا انهار لبنان". وهذه عبارات في توقيتها ليست مسألة تقنية لغوية فقط، بل هي مسألة تتعلق بجوهر الموقف الأميركي من لبنان، قد تعكس مرحلة الرئيس ترامب ووزيره للخارجية بومبيو أكثر، لكنها توحي بأن المرحلة المقبلة في لبنان على أهبة المجهول، وسط التصدّعات الكبيرة عشية استحقاقات دستورية. تتعلق الأمور بدستورية الانتخابات الرئاسية المقرّر إجراؤها في موعد أقصاه 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، والتي قد تؤدّي إلى مزيد من الشلل والتوتر.
تساؤلات عمّا إذا كانت القوى الدولية معنية ومهتمة كثيرا بالاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقبل، ولديها الإحاطة باستقرار لبنان وعدم انهياره
ما سمعه وما قرأه اللبنانيون من الأميركيين بددّ الرهان على أن الكتلة التغييرية (15 نائبا) ستعزّز سيادة لبنان ومنع التشرذم في الحياة الوطنية. وهم يطرحون سؤالا عمّا إذا كانت القوى الدولية معنية ومهتمة كثيرا بالاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقبل، ولديها الإحاطة باستقرار لبنان وعدم انهياره. وهذه لحظة سياسية مربكة، لا يستطيع لبنان التقاطها في مجرى علاقات دولية تجري بوتائر متسارعة على غير ساحة: انشغالات العالم بالحرب في أوكرانيا، مناورات وأفخاخ، وأزمات من طبيعة اقتصادية ومالية ونفطية. هذا إلى أزمات المنطقة الكلاسيكية، فتغدو سجالات اللبنانين عن شخصية الرئيس المقبل (للبرلمان) في عين التينة، أو (الجمهورية) في بعبدا، غير ذات أهمية للمجتمع الدولي... حسنا! لن يعود لبنان إلى الحرب الأهلية؟
تتكامل الأجواء في لبنان حاليا مع الانتخابات الرئاسية في 1964و1968 و1972 قبل الوصاية السورية على لبنان. كانت الحياة السياسية اللبنانية آنذاك هي التي تقرّر القيادات والتحالفات، والحيثيات الداخلية هي الأساس في الحفاظ على السيادة الوطنية. خرق هذا الوضع في سنوات الحرب وخلال الوصاية السورية، والآن يخرق مع الوصاية الإيرانية. ما عاد هناك ربط لشيء مع آخر في لبنان. قانون الانتخاب في مكان، والنواب في مكان، وتشكيل حكومة في مكان آخر.
ما عادت اللعبة الديمقراطية تشبه مضمونها ومعاييرها وأهدافها ولا تلك التي سبقتها، ففي المرحلة المقبلة وزنٌ أكبر للعوامل الخارجية أكثر من العوامل الداخلية، الأمر الذي يحتاج مزيدا من وضع الثقلين، العربي والدولي، لتدارك انهيار البلد والارتطام الكبير، وذلك باختيار لبنان العمل بالقاعدة الذهبية التي كانت قائمة إلى غاية 1954 و1955، وهي قاعدة أساسية أرساها آباء الاستقلال، "حيادية لبنان"، وعدم التزام لبنان بأي معاهدات وأحلاف تضعه خارج السقوف العربية والدولية. وهذا يحتاج الى الثقافة السياسية الوطنية التي لم تعر أي اهتمام لمرحلة بناء الوطن، وإنما بدأت بالعبور إلى الدولة، لكن لم تحافظ على التماسك في هذا البناء، فالميثاق الوطني ما زال أحجية، ولا يزال يُنظر إليه استنسابيا، وأحيانا اعتباطيا، إلى درجة تفتييت الأحكام الدستورية الملزمة.
لا يعرف اللبنانيون إلى الآن أين هو الميثاق الوطني الذي يقوم أكثر على اتفاق الشخصيات، وليس على إجماع اللبنانيين
لا يعرف اللبنانيون إلى الآن أين هو الميثاق الوطني الذي يقوم أكثر على اتفاق الشخصيات، وليس على إجماع اللبنانيين، حتى اتفاق الطائف يقتصرعلى شموليته وإمكانية ترميمه، وفي كثير من بنوده لم يتغيّر بعد، فالحياة السياسية أغفلت الالتزام بالقانون المفروض بأحكام الدستور. ما عادت عقلية الإصلاح عند اللبنانين موجودة. تؤخذ منها أجزاء على أساس المقايضات من دون جدّية تترجم بإصلاحات وأفعال. هذا ما عكسه عدم الاستجابة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته بيروت عقب انفجار المرفأ (2020)، والاتفاق المبدئي مع وفد صندوق النقد الدولي المفاوض في بيروت. هناك شخصنة في "الدراما اللبنانية السياسية" منذ العام 1991 ولا تزال.
صحيحٌ أن الانتخابات التي انتظمت أخيرا حملت رسائل مهمة إلى الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) في قضية التغيير، لكنها لا تفيد، إذا لم يقتنع الآخر بقضية إنقاذ لبنان بدل التمسّك بالسلطة طائفيا. كأن لبنان، في وضعه الحالي، يستحيل إصلاحه وحزب الله يمسك بالدولة. لا يعتبر الحزب أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي مفيدة، ثم إن مرتكزاته خارج الدولة، ويطالب بوضع سياسي مستقر وبسياسات منتجة. لكن كيف؟
تتصل نتائج الانتخابات اللبنانية بحركة 17 تشرين الاحتجاجية (2019). أنتجت نوابا على وعي سياسي وخبرات لشباب لديهم دراسات عليا مهمة. كما صعدت من بعض الأحزاب التقليدية وجوه مختلفة. وأعطت الانتخابات إشارات إيجابية إلى الداخل والخارج. استنهضت النخب الاغترابية تمويلا ومشاركة امتدادا لنهضة اغترابية. لبنان يحتاج فعلا إلى منظومة فكرية سياسية جديدة. "دافوس" لبناني مستمر. ولكن كيف يمشي ذلك كله بفقدان احترام الجميع "مبدأ الناي بالنفس" عن أحداث وصراعات تحاصر بلدا صغيرا واقعا في قلب أكثر من حرب.