لماذا على الأردن مراجعة سياساته الإقليمية؟
تجاوز الأردن، تاريخياً، محطّات مفصلية قاسية، ونجا، بذكاءٍ شديد، من تحدّيات عاصفة، منذ تأسيس الإمارة في 1921، وتثبيت الكيان السياسي الجديد، مروراً بمحاولات إطاحة الدولة والنظام السياسي، والفوضى، وصولاً إلى الربيع العربي الذي شهد بعد ذلك تحطّم الاستقرار السياسي في عدة دول وانهيار أنظمة، بينما بقي الأردن صامداً، وتحولت الدولة الصغيرة محدودة الموارد التي كان الرهان كبيراً على أنّها "مؤقتة" أو "وظيفية" إلى أعجوبةٍ بنظر السياسيين العرب والغربيين. ولكن ذلك لا يعني أنّ التحدّيات انتهت، وأنّها لم تعد بالأهمية ذاتها التي كانت عليها سابقاً، فلكل مرحلة تحدّياتٌ ترقى إلى مصادر تهديد في أحيانٍ كثيرة، وإذا تجاوزنا المعادلة الداخلية (وما فيها من أزمات ومشكلات متراكمة ومركّبة) فإنّ المحيط الخارجي؛ دولياً وإقليمياً، يطرح اليوم تحدّيات وتهديدات خطيرة لا تقلّ عما سبق على الأمن القومي الأردني والمصالح الحيوية للدولة.
شكّل احتلال العراق في العام 2003 تحوّلاً جوهرياً في بنية البيئة المحيطة في الأردن، ما أدّى إلى انبثاق المارد الإيراني الإقليمي، وتحولات كبيرة في سياقات العلاقة مع الجار الشرقي الذي مثّل فترات طويلة عمقاً استراتيجياً للأردن، فيما أدّت لحظة الربيع العربي 2011 إلى تغيّرات أخرى في كل من العراق وسورية (مع بروز تنظيم داعش وانتهاء "الدولة الإسلامية")، بخاصة حالة عدم الاستقرار على الحدود الشمالية والتدفق الكبير للاجئين. وحالياً هنالك تحدّ واضح يتمثل في النفوذ الإيراني والتقارير التي تؤكّد مأسسة فرق عسكرية تابعة لإيران على الحدود الأردنية - السورية، مع ما تصفها أوساط عسكرية أردنية بـ"حرب المخدرات" على الحدود، وهو تحدّ في طور الصعود والتطوّر وليس الضبط والردع!
لا تبدو الأوضاع على الحدود الغربية أفضل حالاً، فبالرغم من خروج الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من البيت الأبيض، إلا أن مشروعه لم ينته، وقد تكفل صهره جاريد كوشنير (نشر كتاباً أخيرا خصص جزءاً كبيراً منه عن منطقة الشرق الأوسط وعمليات التطبيع) بإبقاء المشروع يتحرّك، والمهم أنّ هنالك تطوّرات سريعة على صعيد القضية الفلسطينية، تتمثل في نقل السفارة الأميركية إلى القدس وعمليات التهويد والتطبيع العربي - الإسرائيلي، الذي يمثل رصاصة الرحمة على المفاهيم الاستراتيجية التي أسّس عليها الأردن رؤيته إلى معادلة الصراع مع إسرائيل وتصوّراته لدوره الإقليمي (وديبلوماسية الموازنة؛ أي اعتماد الأردن على الدعم العربي لدعم هذا الدور)، وأخيراً التحوّل الأخطر الذي يتمثّل بالسماح للفلسطينيين (من سكان الضفة الغربية) بالسفر عبر مطار رامون، ما سيؤثّر استراتيجياً على الدور الأردني.
ما يزال التمسّك الأردني الرسمي والديبلوماسي بالخطاب التقليدي "إقامة الدولة الفلسطينية" و"حلّ الدولتين"، ولكن من دون تقديم تصورات استراتيجية
من الواضح أنّ هنالك أجندة إسرائيلية - إقليمية لتصفية مشروع إقامة الدولة الفلسطينية، ولتطبيع العلاقات الإسرائيلية، والوصول إلى صيغ تتعارض مع الرؤية التقليدية الأردنية للمصالح الوطنية، فيما ما يزال التمسّك الأردني الرسمي والديبلوماسي بالخطاب التقليدي "إقامة الدولة الفلسطينية" و"حل الدولتين"، وهو أمر مهم بلا شك، ولكن من دون تقديم تصورات استراتيجية واضحة للتعامل مع انهيار هذا الخيار.
على صعيد العلاقات الأردنية الإسرائيلية، فإنّها على الرغم من تحسنّها المؤقت، بعد مغادرة نتنياهو رئاسة الحكومة، إلا أنّ ما يدركه صانع القرار الأردني أنّ البنية الاستراتيجية التي شكّلت المعادلة بين الطرفين تغيرت جذرياً، وأنّ المشروع الإسرائيلي الذي كان ينظر إلى الأردن من منظور أهمية الاستقرار السياسي تحول نحو المنظور الذي إما يرى في الأردن هامشياً أو حلاً للأزمة الديمغرافية، وقيمة الدور الاستراتيجي للأردن تراجعت لدى قيادات الكيان هناك، حتى أولئك الذين لا يحملون مواقف حادّة كما هي حال نتنياهو، لا تغطّي مواقفهم الحقيقة الناصعة أنّ الحسابات تغيرت جذرياً!
ما هو أسوأ من ذلك القلق الأردني من عودة نتنياهو، بعد الانتخابات الوشيكة، ما دفع الأردن إلى البحث عن أدوات مفيدة (للأسف في الوقت الضائع)، من خلال بعض الشخصيات الفلسطينية من في أراضي 1948، لكن مثل هذا التصور كان يتطلب عملاً متراكماً وتصوراً استراتيجياً ولا يدار بعقلية المياومة!
وبالرغم من العلاقات الاستراتيجية الأردنية الأميركية، وتحسّن العلاقات الاردنية الأوروبية بصورة كبيرة خلال الأعوام الماضية، إلا أنّ الهاجس الأردني يتصاعد من عودة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بعد عامين، وهو السيناريو الكابوس في حال تزاوج ذلك مع رجوع نتنياهو.
ما يحتاجه الأردن اليوم بناء منظورات استراتيجية معمّقة، تقرأ التحولات والتغيرات ومصادر التهديد والفرص والخيارات والرهانات بعقل موضوعي وبعيون مستقبلية
في المجمل، هنالك تحوّلات بنيوية وجوهرية وبيئة دولية وإقليمية متغيرة، وديناميكيات جديدة؛ ودور إيراني ونفوذ كبير له في المنطقة المحيطة بالأردن، وعدم وضوح أردني في ترسيم هذه العلاقة، بالرغم مثلاً أن هنالك حوارا سعوديا - إيرانيا وتقاربا إماراتيا مع طهران، وغزلا تركيا مع سورية، وذلك كلّه يمثل تشكّلاً لإقليم جديد من دون وجود قراءات استراتيجية معمّقة لهذه التحولات والخيارات والبدائل.
ما يحتاجه الأردن اليوم بناء منظورات استراتيجية معمقة، تقرأ التحولات والتغيرات ومصادر التهديد والفرص والخيارات والرهانات بعقل موضوعي وبعيون مستقبلية، ولعلّ ما قد يثير الدهشة، وربما الصدمة، أنّنا لا نجد أي كتاب أو مرجع، رسمي أو غير رسمي، من أكاديميين وسياسيين أردنيين يعيد تعريف الأمن القومي الأردني في ضوء هذه المتغيرات، فضلاً عن وجود قراءات ومقاربات لما يحدث وكيف يتم التعامل معه، ولا حتى يوجد حوار استراتيجي أردني داخلي لقراءة ذلك وتفكيكه، بالرغم من إقرار النخب السياسية أنّ حجم التحوّلات ضخم وكبير!
ما نزال نُحكم بعقلية الفزعة والصدمة من خطوات، مثل مطار رامون أو العسكرتاريا الإيرانية على الحدود الأردنية - السورية أو توقف مشروعات واعدة مع العراق وتعطلها، وهكذا دواليك، بالرغم من أن ذلك كلّه مرتبط بتغير السياقات والمسارات والتحولات الهائلة التي تتحكّم بالمصالح الاستراتيجية الأردنية.
لم تعد المقاربات التقليدية صالحة للاستعمال، بل أصبحت تمثل إضراراً ملحوظاً وباتت هي ذاتها تهديداً للأمن الوطني والمصالح الاستراتيجية الأردنية؛ فإمّا يكون مطبخ القرار قادراً على إنتاج سياسات ابتكارية فعّالة تعيد صياغة الدبلوماسية والدور الأردني، أو أنّ حجم الخسارات سيتضاعف خلال الفترة المقبلة.